هيرمس
شايل جيل

قاض وقضية

مركب صيد
في ذاكرة كل قاض.. قضية محفورة في وجدانه..تفاصيلها..أحداثها ..لم يمحها الزمن ..نسترجع مع قضاتنا الأجلاء بعضا من تلك القضايا . يقول المستشار سامح عبد الله رئيس محكمة جنايات دمنهور عندما كان وكيلا للنائب العام ،بنيابة المنتزه

 

كانت الساعة قد تجاوزت السادسة مساءً بقليل عندما كنت مكلفًا بالقيام  بأعمال النيابة المسائية فى هذا اليوم طبقًا للنظام المعمول.

فوق مكتبى لم تغادرة تلك "الأباجورة" الصغيرة ذات الضوء الخافت المائل للإحمرار فقد كنت أطمئن للقراءة تحت ضوئها أكثر من مصباح الغرفة ذات الضوء الأبيض المزعج لا سيما عندما أقرأ بعض التحقيقات أو عند مراجعة بعض المذكرات أو عندما أتصفح وريقات كتاب صغير غالبًا يكون لتوفيق الحكيم.

فى هذا الوقت تمنيت أن تكون المحاضر المعروضة من التلبسات خفيفة من نوعية إشغالات الطريق أو التسول أو الضرب البسيط الذى عادة ما ينتهى صلحًا فقد كان يومي الصباحى فى الحقيقة مجهدًا من أثر تحقيق جنايتين .

وظل الأمر هادئًا كما تمنيت لكن ذلك لم يدم طويلًا.

لم تمض سوى دقائق حتى دق تليفون المكتب وكان هو مأمور القسم.

ولك أن تتخيل لماذا يهاتف مأمور القسم وكيل النيابة الذى يقوم بأعمال النيابة المسائية بالتأكيد  ليس من أجل أن يلقى عليه تحية المساء لكن من أجل محضر غالبًا يكون من المحاضر التى تستأهل تحقيقًا حتى الصباح أو كما نقول نحن " محضر ثقيل".

قلت له: خيرًا يا سعادة المأمور.

قلتها وأنا فى الحقيقة لا أنتظر خيرًا

وكالعادة بدأ الكلام بتلك العبارة التقليدية المريبة: " هو فيه حاجه بسيطة كده"

وعندها صدق حدسى

ثم تابع يقول:  "مركب صيد تم ضبطها بمنطقة أبو قير.. الظاهر العيال كانت عايزه تهرب ومسكتهم دورية السواحل"

ولم أجد رداً سوى أن أقول: ارسلهم سعادة المأمور.. أنا موجود"

هنا علمت أنها ليلة طويلة وأن ما رجوته لم يتحقق وأننى سوف أضيئ مصباح الغرفة المزعج وستمتلئ طرقة النيابة برجال الضبط والمتهمين وطبعًا سيتوافد السادة المحامين الى مقر النيابة لممارسة حقهم فى الدفاع وسيطرق رجب عامل البوفيه مكتبى كل دقيقة يقدم لى الشاى والقهوة بالرضاء أو الاكراه!..
ولم تمض عدة دقائق حتى اكتمل المشهد الذى تخيلته تماما وإنقلب السكون إلى ساحة من الحراك والضوضاء.

هجرة غير شرعية!..

كانت التهمة جديدة نوعًا ما على آذان المجتمع المصرى وإن كانت أعدادها قد أخذت فى التزايد.

لم نكن نعلم فى الحقيقة أن الأمر لبس أكثر من أن شخصًا أو عدة أشخاص قد أرادوا أن يتجاوزوا حدود الدولة من غير الأماكن المعدة لذلك وهذه هى الجريمة فى الحقيقة وكانت عقوبتها الغرامة أما أن تُكيّف الواقعة على أنها هجرة غير شرعية فلم يكن المشرع وقتها قد انتبه إلى تطور هذا السلوك حتى يصبح على تلك الصورة التى سُطرت بالأوراق والتى جعلت المشرع " الدولى" ومن بعده المشرع الوطنى ينتبه إلى تلك الظاهرة التى أضحت مخيفة بكل معنى الكلمة  

قرأت الأوراق وكانت تطوى تلك الواقعة: مركب صيد يبحر من منطقة أبى قير شرق الأسكندية محملا بعشرات الشباب من أجل الهجرة إلى السواحل اليونانية فتم ضبط المركب من قبل خفر السواحل وتم القبض على أحد عشر شخصًا بينما فر آخرون.

وبعدما فرغت من قراءة الأوراق قلت لمعاون الضبط ادخل المتهمين.

فأحضر لى أحد عشر متعبًا.. منهكاً.. بل بائساً!..

قلت له : أنا قلت أدخل المتهمين لا المجنى عليهم!

ويبدو أن أمين الشرطة قد فهم القصد ورد وفى صوته بعض الأسى: " هما دول المتهمين"

ثلاثة وعشرون شابًا بملامح بائسة وملبس رث تفوح من أجسادهم رائحة الملح!..

كل شىء في الحقيقة كان برائحة المِلح..الأجواء كلها كانت برائحة الملح.. بل قل حياة هؤلاء كلها كانت برائحة الملح.

أمرت أن تُلبى كل طلباتهم من مأكل ومشرب لمن يحتاج منهم دون أن يتكلف شىء

ثم كان علىّ أن أستمع لهم واحد تلو الآخر.. كان علىّ أن أستمع لمأساة كل منهم.. هؤلاء القادمون من طين أرض لم يعد لهم فيها موضع قدم وهؤلاء القادمون من واقع لم يعد لهم فيه إسم وهؤلاء القادمون من مجتمع لم يقدم لهم وصفًا غير ما دون فى محضر!..

يلا المأساة عندما يأتى كل هؤلاء من واقع يشبههم ثم يساقون إلى مجهول يظنون به خيرًا

أية مأساة أكثر من هذه..!

قال لى أحدهم أنه ترك صغيره وقال الآخر أنه ترك أباه وقال ثالث أنه ترك أمه وهكذا كانت المأساة تتجلى في ترك هذا وترك ذاك!..

بضعة كسرات من الخبز كانت هى زاد كل منهم في الرحلة.. وزجاجة مياه كانت هى مشرب كل منهم في الرحلة !..

أهكذا يكون الزاد فى بلاد القمح والنيل!.

لقد كانت الأوامر صارمة.. لا وزن زائد بمركب الصيد حتى المعدة لا يجب أن تُثقل بطعام أو شراب!..

حتى الخامسة صباحًا كنت أستمع وأصغى لأبناء الريف والأرض الطيبة كل منهم حمل مأساته معه وألقى بها إلى بحر واسع لكنه ضاق بهم.

أخليت سبيل هؤلاء بضمان محل إقامتهم وفى اليوم التالى ناقشت رئيس النيابة فى الأمر واقترحت أن أصدر فى الأوراق أمرًا بألاوجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم الأهمية.

حررت أمراً بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية قِبل هؤلاء وأذكر أنني من بين ما قلت فى أسبابه تلك العبارات:

" إن من بين فلسفة العقاب الردع حتى يبيت المجتمع هادئًا مطمئنًا من الجربمة لكن ماذا لو كان المجتمع ذاته هو الدافع للجريمة ؟!

ماذا لو كان المجتمع نفسه هو الجانى وأن المتهم هو الضحية؟!

إن العدالة تقتضى أن تعاد صياغة المعادلة وأن يعاد وصف الجرم بحيث لا ينال سوى من ينطبق عليه وصف المدان لا الضحية..

 وسيكون من الاجحاف أن نصف هؤلاء بالطامعين فى الحياة أو المتمردين على الحياة لأنهم فى حقيقة الأمر هم المثقلون بالحياة"

صدر الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية وأُغلقت صفحات القضية بتلك العبارات لكن آلاف القضايا قد فُتحت دون أن تُغلق صفحاتها!.

بعد هذه الواقعة بما يقرب من عشرين عام صدرت اتفاقية الأمم المتحدة لمنع وقمع الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية ومن بينها الهجرة غير الشرعية وقد نص البروتوكول الملحق بها فى المادة الخامسة منه والخاصة

بمسؤولية المهاجرين الجنائية بأنه لا يصبح المهاجرون عرضة للملاحقة الجنائية بمقتضى هذا البروتوكول وذلك نظرًا لأنهم عرضة للإستغلال وهو ذات ما دونته فى الأمر بألا وجه الدعوى الجنائية الذى حررته قبل ذلك البروتوكول وتلك الاتفاقية بنحو عشرين عام ويالها من مفارقة..!

 





يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق