هيرمس
شايل جيل
رواية بين العطر والنغم (17)

كتبت أماني عطاالله


الحلقة السابعة عشر من أحداث رواية بين العطر والنغم للكاتبة أماني عطاالله، التي لاقت ترحيبا واقبالا بين زوار معرض الكتاب الدولي للكتاب 2020، إليكم الأحداث...

حبه أجشع من أن يكتفي وقلبه أجبن من أن يقاومه.. 
قلب كاللعنة.. 
أسير بين قسماتها اللاهية.. 
موبوء يبث سمومه بين أعضائه حتى أهلكها عشقًا.. 
تبًا له ولذلك العشق الذي يستعبده..! 
لماذا لا يرضى ويقنع فيريح ويستريح؟! 
لماذا يصر على احتلالها كاملة؟ 
تسمرت عيناه فوقها وهي تتقدم منه مبتسمة.. 
كغانية تتملق قوادها.. كجارية تسترضي سيدها.. 
أقبلت تحيطه بذراعيها.. 
قبل شفاهها التي ألقتها نحوه ككلب جائع.. 
من المُحال أن يبقى صامدًا للأبد.. 
سوف يسقط عاجلًا أم آجلًا.. 
عليه أن يُقدم لها خيارًا وعليها أن تتخذ قرارًا 
فالوضع أسوأ من أن يستمر....
ابتسم في ألم عندما رفعت وجهها لتتعمق في عينيه قائلة:
-    آسر ماذا بك.. تبدو مهمومًا؟
تطلع إليها حالمًا قبل أن يغمغم:
-    لا شيء.. ضغوط العمل. 
ابتسمت في شقاوة هامسة:
-    هل تُفكر في ناردين أُخرى؟
كان يعلم أنها تلمح إلى تركيبة عطرية جديدة يتخذها فيها ملهمة له كما فعل من قبل.. لكن.. أية ناردين تلك التي يمكنه أن يفكر فيها وهي تلتصق به كجلده.. بل وأقرب.. عبيرها إبداع تخطى حدود البشر؟!  
برقت عيناه وهو يتأملها بشغف قائلًا:
-    لا توجد سوى ناردين واحدة.. فالحياة لا تتكرر.
ازدادت التصاقًا به وهمست في عشق محموم:
-    حبيبي.
ضمها إليه بقوة تأوهت لها.. طبع فوق شعرها عشرات القبل.. ما الذي يريده أكثر من هذا ؟! فهي تتقن دور العبدة بجدارة تُحسد عليها.. تجعل منه ملِكًا وإن كان لا يملك عرشًا.. سلطانًا لجسد يشتاقه ليل نهار. 
ولكن..... 
ماذا عن أفكارها ونبضها وعيونها حين تحلم؟
ماذا عن جنونه الذي لا يهدأ وغيرته التي تستبيح أعصابه كل لحظة..؟!
ماذا عن قلقه من أن تكتفي منه يومًا فترحل وتتركه..؟!
حاول أن يبدو طبيعيًا وهو يسألها:
-    أمازلتِ تريدين تعلم الموسيقى؟
توهجت عيناها وهي تهتف بسعادة:
-    أنتَ تعلم أن الموسيقى حياتي.
اعتلى الوجوم قسماته فأردفت وهي تحاول السيطرة على لهفتها:
-    أقصد.. إن لم تكن تمانع بالطبع.
أطلق تنهيدة طويلة قبل أن ينهض ويتركها صامتًا.. مازالت تعشق الموسيقى.. أتعشقه هو بالفعل أم تعشق ذا الغيتار اللعين..؟!
***
رغم دهشتها إلا أنها شعرت بالسعادة عندما قرر فجأة أن يأخذها في عطلة جديدة إلى كوخ الحب.. ليس في عطلة نهاية الأسبوع فحسب.. بل سيمضيان هناك عشرة أيام كاملة.. أتراه بدأ يفضلها عن عمله أخيرًا..؟!
شاركها حتى أنفاسها ولكنه بقى أبعد ما يكون عنها.. شعرت بغربته حتى وهي بين ذراعيه.. عيناه تحتضنها ولا تراها.. 
لماذا اختلط الشهد بين شفتيه بالمرارة والألم..؟ لماذا يُشعرها كلما قبلها بأنه يودعها.. وكأنها قبلته الأخيرة..؟!
إلى أين وصل به الشك هذه المرة؟  أتراه قرر أن يفترقا بالفعل؟
أسئلته التي لا تنتهي عن عشقها للموسيقى صارت تُزعجها.. وكيف لا وهي دائمًا مصحوبة بذلك الاتهام في عينيه..؟
كانت تعلم مغزاها ولكنها لم تجد في نفسها الشجاعة لمواجهته.. ماذا لو عاد وأخطأ تفسير كلماتها مجددًا..؟!  
بينما كانت تعد له وجبته المفضلة.. استأذنها في الابتعاد عنها دقائق معدودة.. أخبرها بأنه سيذهب لأقرب كابينة عمومية لإجراء محادثة تليفونية عاجلة للاطمئنان على أحوال الشركة.. عاد بعدها واجمًا.. مشكلة صغيرة في العمل.. هكذا أخبرها ولكنها لم تقتنع.   
استمر يثرثر بعبارات يبدو أنه هو نفسه لم يكن يفهمها.. ابتساماته الجوفاء زادتها ريبة وحيرة.. ما الذي أصابه؟ تعلم فقط أنه يخفي شيئًا يؤرقه بقدر ما يحرص على أن يبقيه سرًا.
تأملته في قلق وهو يقترب منها تائهًا.. ضمها إليه في وجل هامسًا:
-    علينا أن نعود غدًا إلى لندن.. عندي مفاجأة لكِ.
-    أحقًا..؟
-    نعم.. سنحضر حفلًا موسيقيًا في دار الأوبرا الملكية.
برقت عيناها في عدم تصديق وصفقت كطفلة قبل أن تحتضنه وتقبّله امتنانًا.. همس بابتسامته المسكونة حزنًا:
-    ألهذا الحد اشتقتِ للموسيقى؟
-    اشتقتُ أكثر لأن تشاركني فيها.
***
عندما خرج من الحمام كانت قد أوشكت على الانتهاء من زينتها.. وقف يتأملها بعيون شاردة.. ماذا لو راقها الأمر وأيقظتها مفاجأته من غفوة العشق التي انتابتها نحوه مؤخرًا.. كيف سيكمل حياته من دونها؟
ابتلعت ريقها في توتر عندما تنبهت للنظرات القلقة التي يرمقها بها.. تصنعت ابتسامة وهي تبادله نظراته في المرآة قائلة:
-    وماذا بعد.. هل ستظل تتطلع إليَ هكذا للأبد؟
كتمثال بقى ساكنًا لفترة وكأنه لم يسمعها.. استدارت إليه في دهشة.. قطبت حاجبيها وابتسمت بعصبية قائلة:
-    آسر.. ماذا بك؟
انتفض وكأنه استيقظ من غيبوبة قبل أن يحك جبهته بأظافره ويهز رأسه صامتًا.. اقتربت تتحسس جبهته هامسة:
-    هل أنت بخير؟
عاد يهز رأسه ولم يعلق فأردفت:
-    إن لم تكن تريد الذهاب فـ........
قاطعها في يأس لا يخلو من التصميم:
-    بل سنذهب.. لابد أن نذهب.
امتلأت عيناها ألمًا وهي تراه يتلوى أمامها كطير جريح يحتضر.. أنفاسه التي يلفظها بصعوبة لوحتها بكل ما تحمله من سكرات الموت.. عضت على شفتيها واحتضنت وجهه في لوعة قائلة:
-    ثق أن عشقي للموسيقى ليس شيئًا أمام عشقي الجارف لكَ.
التهم ملامحها في أمل فأردفت ساخطة:
-    إلى متى ستشكك في مشاعري وإحساسي بك..؟ أنتَ تؤلمني.
قبّل كفيها وابتسم في حنان قائلًا:
-    عشقي لكِ يفقدني حتى الثقة في نفسي.
-    أنا أيضًا أحبك ولكنني لم أفقد ثقتي بك.
-    عذرًا حبيبتي. 
-    عذرك هذه المرة أقبح من كل ذنوبك في حقي. 
قبل جبهتها مُعتذرًا فتنهدت في استسلام قائلة:
-    حسنًا.. سوف أعذرك هذه المرة أيضًا.. ولكن كُن حذرًا.. كدتَ تستنفد كل أعذارك.
ابتسم في مرارة قائلًا:
-    اطمئني.. كاد كل شيء أن ينتهي.
-    ماذا تعني؟
تطلع إليها في ألم ورجاء قبل أن يتنحنح ليستعيد صوته وهو يبتعد عنها قائلًا فى نبرة زادها انفعاله رنينًا:
-    سأرتدي ملابسي.. تأخرنا على الحفل.
راحت تراقبه خلسة وهو يرتدي ملابسه في جدية أقرب إلى الحزن رغم ابتساماته المفتعلة كلما حانت منه التفاتة إليها.. فتحت شفتيها لتتذمر.. ولكنها عادت تغلقهما في قلة حيلة أصابتها بمزيد من السخط.
***
 تأبطت ذراعه في زهو وسعادة وهو يقودها إلى الصف الأمامي في قاعة الأوبرا الملكية.. تطلعت حولها في انبهار وشهقت في شغف وهي تضغط نفسها به امتنانًا.. جلست بجواره وعلى شفتيها ابتسامة واسعة تنم عن سعادة كبيرة فرح لها بقدر ما أرعبته. 
استدار إليها مبتسمًا تلك الابتسامة الحزينة التي سكنته مؤخرًا.. أمسك بكفها وضغطها في حميمية قبل أن يرفعها إلى شفتيه ويقبل باطنها متيمًا.. شعرت بانقباضة وهمست باسمه جزعة.. عاد إحساسها بكونه يودعها ليطاردها من جديد.. بشكل أعنف هذه المرة.. ولكن لماذا؟  
ما الذي فعلته في حقه حتى يحاول التخلص منها؟
تعلقت بشفتيه وصوته المختنق وهو يقول:
-    أرجو أن تروقك هديتي هذه المرة. 
-    آسر.. أنتَ هديتي.
-    لا تتعجلي الحكم.
-    عن أي حكم تتحدث؟ لم أعد أفهمك.
-    ستعرفين كل شيء بعد قليل.. ما أريدك أن تعرفيه الآن.. هو أنني قررت شراء سعادتك ولو كلفتني ثروتي كلها.
ابتلعت ريقها في قلق بلغ ذروته وتعلقت عيناها به في فضول ولكنه ربت على كفها وهو يشير بوجهه إلى ستار المسرح الذي بدأ يرتفع في بطء.. استدارت شاردة وراحت تتطلع بلا عيون إلى أعضاء الفرقة الموسيقية وهم ينحنوا في احترام لتحية الجمهور الذي استقبلهم في حفاوة قبل أن يصطفوا فوق خشبة المسرح في زهو لا يخلو من رهبة اللقاء الأول مع جمهور واعٍ مثقف كالماثلين أمامه الآن.
ضاقت عيناها فجأة وهمت أن تنهض واقفة قبل أن تنتبه لوضعها وتسترخي من جديد.. 
الضوء الذي انبعث من عينيها وهي تحدق في وجه معشوقها الأول.. أضاء ظلام القاعة من حوله.. كان نارًا أحرقت عينيه وأحشاءه.. لازالت تحبه إذًا.. تحب الموسيقى وعازفها رغم كل عبارات العشق الزائفة التي رمته بها...
في غفلة منها..
وغفلة عقل منه.. 
وغفلة من الزمن.. ليتها دامت..!
لماذا أجبره كبرياؤه اللعين على إقامة هذا الحفل الذي أنفق عليه من ماله ووقته وأعصابه المرهقة يأسًا وإحباطًا..؟ 
لماذا تعجل نهايته ووضع حدًا لنعمة شعر بها وهي في طريقها للزوال من بين يديه؟
لماذا لم يقنع بما قدمته له ويسجد لله شكرًا وحمدًا؟
لحظة جشع من صنعه ستجعلها تذهب مع غريمه وتتركه للأبد.. ستعزف الكمان في فرقته حتى لو تجولت خلفه في الشوارع والميادين كالمتسولين.. ستعزف له ألحانًا من العشق عاش هو يتمنى لو تعزفها يومًا لأجله.
خسارتها ثمنًا فاق حساباته.. غرور أم غباء ذاك الذي أعماه فلم يفكر..؟  ربما صدق كونها عشقته بالفعل فأقدم على تلك الخطوة المتهورة غير عابئ بعواقبها وتبعاتها المدمرة.. كيف سيُكمل حياته إن لم تكن فيها..؟! 
ولكن.. هل عليه الآن أن يودعها وداعًا لا رجعة فيه.. هل عليه أن يتقبل الأمر صاغرًا مستسلمًا؟  
ألا يحق له على الأقل أن يُذكرها بـ كلماتها المعسولة وإحساسها الجياش..؟ 
بـ نعيم جمعهما يومًا حتى ولو كان وهمًا..؟
أغمض عينيه في ألم عندما أدرك أن غريمه تنبه إلى نظراتها النهمة إليه فبادلها بأخرى أكثر نهمًا.. احتواهما حديث طويل تحمله نغمات غيتاره منها وإليها.. موسيقاه صدحت بلحن مميز اختلف عن ذاك الذي عزفه منذ قليل.. لحن عميق دافئ يشبهها.. يعكس إحساس كل من يشعر بها وتصيبه لعنة عشقها المجنون. 
كان يظن أن الموسيقى بدأت تعشقه.. أو على الأقل تناست عداءها القديم معه.. لكنها كانت هُدنة.. رفقة قصيرة عادت بعدها لمعشوقها الأول.. ذاك الذي يتجول بها بين الميادين.. فضلت أن تحرقها شمسه وتفتتها رياحه على أن تحيا حبيسة جدرانه الدافئة المعطرة بأنفاسها. 
فضلت التسول..!
حبيبها المُشرد حمل إليها ما لم تحمله ثروته وكنوزه.. حمل لها عشقًا كان أغلى من أن يشتريه هو لها.
فك ربطة عنقه قليلًا وجاهد ليلتقط أنفاسًا تأهبت للرحيل معها.. كاد يختنق ولكنها لم تشعر بمعاناته بعد.. ولن تشعر بها أبدًا.. يومًا ما سيصبح وجوده في حياتها ذكرى.. وكل ما يتمناه الآن هو أن يصبح ذكرى جميلة بدلًا من ذكرياتها المأساوية معه وعنه.. أن يبقى طيفًا يجعلها تبتسم كلما مر في رأسها المشاكس مصادفة.. 
سيعيش وهو يتخيل ابتسامتها كلما تذكرته.
نهض بخطوات متثاقلة ليغادر القاعة.. عندما وصل إلى باب الخروج استدار ليرمقها بنظرة مودعة أخيرة ولكنها أيضًا لم تلتفت إليه.. كانت لا تزال مشغولة بعالمها الخاص.. ذلك الذي لم ترحب به فيه رغم كل ما قدمه لها.
استدارت فجأة فلم تجده بجوارها.. ظنته ذهب إلى الحمام.. غيابه الذي طال أزعجها فهمت بالنهوض هي أيضًا لتبحث عنه.. ولكن أين سيمكنها البحث عنه إن كانت هذه هي زيارتها الأولى للأوبرا..؟!
نظرات رامز التي تعلقت بها حسمت ترددها.. لو ذهبت الآن سوف تسبب له اضطرابًا هو في غنى عنه.. ربما يتعثر ويفسد فرصة لن تتكرر لإثبات موهبته الرائعة.. تصنعت ابتسامة واسعة ترد بها شغفه إليها.. ابتسامة لازمتها ليعزف عليها أجمل ألحانه وإن كانت لم تسمع منها شيئًا.. كانت شاردة في ذلك المجنون الذي غرس في قلبها عشقًا أكثر منه جنونًا. 
أين ذهب وتركها وحيدة هنا؟ أيعقل أن يكون قد غادر الأوبرا حقًا؟ يعلم أنها في غربة فكيف أمكنه أن يفعلها؟!
تنبهت على صوت التصفيق الحار من حولها.. يبدو أن الجمهور قد أغرم بموهبة رامز فأعلنه نجمًا جديدًا في سماء الموسيقى.. شاركتهم التصفيق والهتاف وهي تكاد تبكي كطفل ضل طريقه.. غربة لم تصبها يومًا.. قاومت بصعوبة تلك الدموع التي ترقرقت في عينيها حتى لا تتمادى وتلسع خديها.. نهضت أخيرًا وأسرعت الخطى لتغادر القاعة.
كبلهاء غبية تسمرت بمنتصف الردهة الواسعة تتطلع في وجوه الجموع الغفيرة التي تتحرك حولها كالنحل ذهابًا وإيابًا.. راحت تفتش عن وجهه بينهم في لجاجة غير مبالية بنظرات الدهشة والاستنكار التي تلاحقها من عيونهم. 
أخيرًا.. ضربت الأرض بقدمها غضبًا وإحباطًا.. لن تغفر له فعلته هذه أبدًا مهما قدم من مبررات وأعذار.. ستجعله يفكر ألف مرة قبل أن يحاول جرحها مستقبلًا.. عليه أن يدرك بأنها ليست إلهة.. بل بشر وقد استنفد قدرتها على الصبر والتحمل.  
فتحت حقيبتها بيدٍ ترتعد انفعالًا.. حمدت الله على أنها وضعت بها ما يكفي من نقود لعودتها إلى منزلها.. نعم.. عليها أن تعود وحيدة غريبة وخائفة. 
انتفضت عندما أمسك بكتفيها من الخلف فجأة.. استدارت في لهفة ولكنه لم يكن هو.. أغلقت فمها على سبابها وأرخت قبضتها التي هيأتها لتلكمه بها.. لم يظهر من ثورتها إلا ذلك الدمع الذي سكن مقلتيها يأسًا من العثور عليه. 
-    حبيبتي...
ظلت ترمقه كالمخمورة وهو يحتويها بعينيه وابتسامته.. بقدر الحب الذي يحمله لها ويتوهج فوق قسماته.. وجدت نفسها بعيدة عنه.
تنبهت لوضعها أخيرًا.. أمسكت بيديه التي أحاطت كتفيها في مزيج من النعومة والتملك والشوق إليها.. ضحكت بعصبية وهي ترمقه في ذهول لم تتخلص منه كاملًا بعد.
ضحك في عذوبة قائلًا:
-    لو لم يكن زوجك الكريم هو من تبنى موهبتي وتحمل تكاليف سفري وإقامتي كاملة لالتمست لكِ العذر.. لماذا أنتِ مصدومة هكذا وكأنكِ لم تتوقعي رؤيتي.. من المفترض أنكِ من رتبتِ لكل هذا؟!
اتسعت عيناها في مزيد من الذهول وهي تستمع إليه بعدم تصديق.. آسر يعرفه إذًا.. ولكن كيف تعرف إليه وهو لم يره من قبل.. حتى والدته لم تره أيضًا.. ولماذا يتبنى موهبته إن كان من المفترض أن يكون خصمًا له؟
تذكرت نظراته الملتاعة وهو يحدثها عن هديته الأخيرة لها.. ما الذي كان يقصده من كلماته؟  ولماذا ذهب وتركها هنا؟  هل قرر أن يتركها له؟  وماذا عن حبه وهيامه هو بها؟  أحقًا أمرها لم يعد يهمه؟  هل يأس منها؟ كيف لم يصدق بعد أنها تحبه كما يحبها بل وأكثر؟  
على الأقل هي لم تفكر في تركه حتى بينها وبين نفسها.
تعلقت عيناها الشاردة بوجه رامز الذي قبل يديها في امتنان قائلًا:
-    لا أدري كيف أعبر لكِ عن شُكري يا حبيبتي.. ولكن كيف أقنعتِه للقيام بأمر كهذا؟  لا شك في كونه متيمًا بك بالفعل.
ابتلعت ريقها كمن يبتلع أشواكًا.. تألمت بالأكثر وهي تبتلع سيلًا من الدمع كاد يتدفق من عينيها حزنًا.. وكأنه لن يثق بها أبدًا.. لن يصدق عشقها له مهما قالت وفعلت لأجله.. كيف تخيل هذا المتحجر أن غرامه الذي احتواها كالسيل وأغرقها كالطوفان  لن يؤثر بها ويصيبها هي أيضًا إلى حد لا شفاء منه؟  
أيظن أن لسانه الذي أحكم لجامه قد منعها من الإحساس به..؟  
أكانت في حاجة إلى اعتراف شفهي منه..؟!
أغمضت عينيها وهي تستعيد كلماته المبهمة التي تقطر ألمًا.. نظراته التي تفيض عذابًا.. أدركت سر المرارة التي ملأت قبلاته وابتسامته.. وداعه الذي لم يحتمل نظيره منها. 
ابتسمت في حنين ظنه رامز له فعاد يقبل يديها قائلًا:
-    كنتِ مُلهمتي الليلة كعادتك دائمًا.. لطالما كان وجودك هو لحني الأبدي وسيبقى كذلك حتى الموت.
تطلعت إليه في إشفاق وتلعثم لسانها قائلة:
-    أنا سعيدة لأجلك.
همس في عتاب:
-    بل لأجلنا.. هل نسيتِ أننا واحد؟!
أحنت رأسها في خجل من إحساسها الغريب به.. فتابع في حنين وقبضته تزداد ضغطًا ناعمًا حول راحتيها:
-    لم أنسكِ لحظة واحدة.. كنتِ دائمًا في عقلي وقلبي وأفكاري.. رحيلك عني كاد أن يقتلني.. ولكن لا بأس.. أيام قليلة ونعود بعدها إلى مصر.. لن نفترق أبدًا بعد الآن.
هزت رأسها في عصبية فأردف مستدركًا:
-    يمكننا أن نبقي هنا حتى تحصلين على الطلاق.. ربما نقضي شهر العسل أيضًا هنا إن شئتِ.. فأنا في شوق لرؤية كل الأماكن في لندن بصحبتك
-    رامز.. أنا........
-    لا تقولي شيئًا.. أخبرني والدك كل شيء.. علمتُ ما حدث ليلة زفافك إليه.. أعرف أيضًا بأمر زواجك المؤقت.. حان الوقت كي تنتهي منه.
تنهدت في حيرة وهزت رأسها معترضة.. كانت حقًا في موقف لا تحسد عليه.. عضت على شفتيها وتطلعت إليه في خجل ولده إحساسها بالذنب نحوه..جاهدت لتجاهر بمشاعرها التي تبدلت.. ولكن لسانها لم يطعها.. تلعثمت وكأنها فقدت النطق فجأة. 
همس وهو يتأملها في قلق:
-    ناردين ماذا حدث؟
أحنت رأسها وعانت لتنطق بصوت مختنق:
-    أنا لن أترك آسر.
قطب حاجبيه في صدمة واستمر الصمت بينهما وقت ليس بالقليل قبل أن يهتف ساخطًا:
-    لا تقولي أن هذا هو الثمن الذي دفعته حتى يتبنى موهبتي. 
هزت رأسها نفيًا.. ولكنه لم يفهمها فعاد يهتف:
-    ثقي أنني لن أقبل بهذا أبدًا.. سوف أُسدد له ما أنفقه كاملًا.. أخبريه بأنني مُستعد لتوقيع كل الشيكات والضمانات التي يريدها.. فقط عليه أن يطلقك.. ناردين أنا........

استجمعت شجاعتها قائلة:
-    أنا أحبه.
-    ماذا..؟!
-    نعم.. أنا لن أترك آسر لأنني أحبه وأرغب في البقاء معه. 
تأملها مذهولًا قبل أن يدور حول نفسه ويشيح بيديه صارخًا:
-    كلا.. مستحيل.. أنتِ تهذين.. مُستحيل أن تكوني قد عشقته بهذه السرعة.. شعورك نحوه مجرد افتتان لا أكثر.. محاولة لرد جميله نحو والدك.. ونحوي أنا أيضًا. 
-    لم أكن أعلم حتى بأنه تبنى موهبتك.. خطط لكل شيء ولم يخبرني.. أخبرني فقط بأنها هديته الأخيرة لي.
-    جيد.. من الجيد أنه يعرف ذلك.. أنتِ لي.. وسوف أسدد كل ماله.. دفع مالًا وسوف يأخذ بديله مالًا.. وسوف اسدده له أضعافًا إن شاء.
-    بل دفع عشقًا.. وبديله عشق.
هز رأسه في هيستيريا قبل أن يمسك بكتفيها ويهزها بعنف علّها تستيقظ قائلًا:
-    كلا ناردين.. العشق لا يأتي هكذا.. لا يُشترى بالمال أبدًا.. القلوب لا تباع ولا ترد.. وقلبك مِلك لي منذ زمن.
تطلعت إليه شاردة والتمست لحبيبها مئات الأعذار مرغمة.. إن كان رامز نفسه يظن بها ذلك.. فكيف لآسر أن يصدقها؟! 
هي نفسها لا تعرف كيف عشقته بهذه القوة وهذه السرعة.. وكأنها مفطورة على حبه منذ ولادتها..!
إن كان عشقها له معجزة فكيف يطلبون منها أن تفسرها..؟!  
ألا يعلمون أن المعجزات لا تفسير لها؟!
جاهدت لتسحب يديها من قبضته ولكنه تشبث بهما في إصرار زادها توترًا وحيرة.. تحاشت النظر في عينيه.. يكفيها ضعفها وإشفاقها الذي أرهقها حد العذاب لأجله.. غمغمت بصوت مختنق بالكاد بلغ مسامعه:
-    وداعًا يا رامز.. أتمنى لكَ مستقبلًا يليق بك.
-    ناردين. 
تطلع إليها في شك قبل أن يحررها مُرغمًا.. لكنها ما كادت تبتعد عنه حتى عاد ليتشبث بها من جديد قائلًا في لوعة:
-    كنتُ مُستعدًا لأحيا أسيرًا لإحسانه وجزيل عطائه.. كنتُ أنوي أن أحتفظ بمعروفه للأبد.. كنتُ أظنه ضحى لأجلي وأجلك.
ابتلعت ريقها وأحنت أهدابها صامتة فعاد يهتف في إحباط قارب الجنون:
-    ولكنه أخذك مني.. سلبني حبًا لن تعوضه الشهرة مهما بلغتها.. لم أعد أملك إلا الحقد عليه.. لم أعد أريد إحسانه.. أريدكِ أنتِ.
-    يومًا ما سأصبح ذكرى في حياتك.
-    ولماذا لا يصبح هو ذكرى؟
-    ما بيني وبينه أكبر من أن يصبح ذكرى.
-    يومًا أحببتِني حتى الموت.
-    عشقي له الآن أقوى. 
-    ناردين...
حررت نفسها منه عنوة وأسرعت تبتعد عنه.. لم تتخيل نفسها يومًا في مأزق كهذا.. لم تعتد أن تجرح أحدًا.. فكيف لها أن تجرح رجلًا رغبته يومًا حتى الموت.. فنانًا مرهف الحس كـ رامز..؟!
ذهبت وتركت في قلبه جرحًا أقوى من أن يندمل.. 
جرح أعمق من الزمن وأطول من حياته التي أنهتها لحظة لفظته فيها.. 
أغمض عينيه في ألم مُحاولًا جمع شتاته التي بعثرتها بلا شفقة ولا رحمة.. 
قلبه أيضًا تآمر معها.. 
وعقله فعل.. 
ليته استطاع أن يتهمها بالخيانة لربما استراح.. 
ولكنه لا يستطيع....
سيظل يناجيها حتى وإن لم تكن تسمعه.. 
ستبقى لحنًا يولد منه ولأجله كل يوم.. 
ستبقى لحنه الأبدي كما وصفها دائمًا.. 
نبوءة غير مقصودة ليتها ما صدفت فصدقت.. 
ستمنحه خلودًا يشتهيه معظمهم ولا ينالونه.. 
ربما لهذا وجدت في حياته منذ البداية.. 
الفنان الكبير عادة ما يولد من ألم كبير.. 
رددوها كثيرًا.. 
قالوها ضاحكين.. 
هازئين.. 
جاهلين ربما.. 
فهم لم يولدوا بعد.. 
ليس بينهم فنان حقيقي مُجرب..  
سيكون هو أولهم مُجبرًا.. 
لم يرد هذه الكأس لنفسه أبدًا.. 
فمذاقها ومرارتها ربما تقتله قبل أن يولد. 
***

انتظروا نهاية الرواية أحبائي,

رابط الحلقة السادسة عشر 
https://www.gomhuriaonline.com/GomhuriaOnline/637389.html


No



تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي

تابع بوابة الجمهورية اون لاين علي جوجل نيوز جوجل نيوز

يمكنك مشاركة الخبر علي صفحات التواصل

اترك تعليق