هيرمس
شايل جيل

محاولة للفهم

حديث القلوب ... الموجوعة!

لو أن أمنية حياته تحققت، ومن الله عليه بنعمة النسيان، لا مكنه أن يتجنب آلام قاسية.. وهو في خريف العمر.

لكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه، لم يصب الصحفي الإنسان محمد العزبي بمرض الزهايمر، الذي يجعل المصاب به لا يدري بكل من حوله، ولا يتجرع مرارة فراق اعز الناس وأحب الناس وأغلى الناس الذي كان يعده ليتوكأ عليه في شيخوخته ويرى الدنيا بعيونه بعد أن ضاع البصر "فإذا به يخدعني ويموت قبلي"

في كتابة صحفيون غلابه الذي صدر منذ 4 سنوات كتب محمد العزبي:

تمنيت لو نسيت الدنيا وما فيها مثل عمر الشريف ذلك الزهايمر اللعين الذي يحزن المحيطين بمن أصابه على كبر والحمد لله انه نفسه لا يدري بنسيانه.

نعى العزبي ولده الشاب سامح بـ 30 كلمة فقط، كافية لان تمزق قلوب من يقرأها "ائتمنته على وصيتي بعد موتى فإذا به غير عنى ويموت قبلي.

يا لوجع القلوب!!

لم أصل بعد الى مرحلة الزهايمر ".. وان كان نسيان الأسماء والأحداث والأماكن فرض عين على الكبار من أمثالي لا بد أن يؤدى أصابني في السنوات الأخيرة مرض آخر، لا يقل خطورة عن الزهايمر!

لا أريد أن اصدق ما لا يقبله عقلي، حتى لو كان واضحاً وضوح الشمس، ولدى قدره خارقة على إنكار ما لا ينكر وتحدى أي منطق مقبول.

كيف يمكن للإنسان أن ينكر الحقيقة حتى لو كانت مجسدة أمامه بالصوت والصورة.

وماذا نقول عن هذا الإنسان؟

ربما نقول فقد عقله... جايز.

أو فقد البصر والبصيرة ...ربما

أو غاب عن الوعي ... يمكن.

هذا ما حدث لي عندما بدأت أبحث في الموبايل عن تعليقات حول آراء اكتبها.

فوجئت بتعزية لمواطن أسمه (سامح العزبي) انه ليس سامح ابننا بكل تأكيد وإنما أخر يحمل اسمه.

لم أستطيع أن أتوقف لحظة لا تفحص صورة الرجل الذي رحل..

ويطالعني عزاء آخر لشخص له نفس الاسم عبر الموبايل لا بد انه مجرد تشابه في الأسماء.

يا الله لماذا "التفويل" على الشاب العفى، الذي كان يحدثني عبر التليفون منذ أيام معدودة حديثاً طويلاً

أتلقى اتصالاً تليفونياً من الصديق محمد غزلان، لم يدخل للموضوع مباشرة أنما حول مقالات يكتبها عن شيوخ المهنة في نقابة الصحفيين.

وسألني أخبار الأستاذ العزبي أيه؟ 

قلت لم يتصل بي اليوم وان كان نصحني بالأمس أن أتجنب النزول هذه الأيام، بعد نوبة برد المت بى.

يبدو أن إجابتي لم ترضى الصديق الذي واجهنى بسؤال مباشر من هو سامح العزبي الذي رحل عن دنيانا، هل له علاقة بالأستاذ العزبي.

لا... لا يا غزلان مجرد تشابه أسماء سامح بخير وكان يحدثني بالتليفون منذ يومين فقط.

يا لوجع القلوب

أخذت أحدث غزلان عن اننى وسامح، نذوب عشقاً في الفول النابت.. واعدت أن احصل عليه من تاجر فى أسوان وهو احتياجاتي من البقول، وأرسلت له هدية صغيرة من الفول النابت.

وفوجئت باتصاله التليفوني وحديثه الدافئ الطويل وعلقت لو كنت اعرف اننى سأستمع الى تلك الكلمات الطيبة التي احتاجها بشدة لأرسلت لك كل ما لدى التاجر من الفول النابت ومن سخرية القدر انه رحل دون أن يأخذه من بين والده.

ضحكت ولم يضحك غزلان طلب منى أن أتأكد من الخبر.

يا الله سأفعل لأطمئنك.

كان الوقت متأخراً لم أزعج الأستاذ وسألت من يعرف الحقيقة وكانت الصدمة المحزنة.

نعم يا غزلان إن العريس الشاب سامح وتعالت صرخاتي حتى كادت زوجتي أن تخشى على حياتي. 

يا لوجع القلوب.

وكأن قلوبنا ينقصها أوجاعا حتى يفاجئنا وجع جديد يدميها.

لا يعرف معظم الناس إن الدعوة بطول العمر لا يتسع الذين عاشوا أكثر مما ينبغي ولا يخيفهم الرحيل بقدر إن تدهور حياتهم الصحية ومن ويشكلون عبئ على الأخريين وتفقد الحياة معناها عند ما يودعون الأبناء بينما كانوا ينتظرون إن يقوم الأبناء بوداعهم.

الرحلة طالت ورفاق العمر يتساقطون الواحد تلو الأخر ولم تعد الاقدام قادرة على أن تشارك في توصيلهم الى المقابر.

ومع كل راحل جديد يشير خبر جديد في قلوبهم.

وعندما يأتي الدور على وداع الأبناء والأحفاد تبدو سخرية القدر وقسوته.

يكدح الإنسان طوال حياته من اجل أن يرى الأبناء يكبرون يتعلمون يتخرجون يتزوجون وينعم برؤية الأحفاد واللعب معهم.

وفجأة نتحطم كل الأحلام ويرحل الابن دون كلمة وداع

يا لوجع القلوب

عريسنا الذي رحل، كان، حتى ساعاته الأخيرة سليماً معاف، لم يعاني من مرض يشير الى انه يتعرض للخطر أو حتى يحتاج الى طبيب.

أحيانا عندما يطول المرض يعطى فرصة للأهل أن يتوقعوا الخطر القادم.

ولكن المفاجئة ... وآه.. وألف آه من الموت المفاجئ/ عريسنا الذى رحل كان يشع حناناً في مل من حوله وكأنه ليس أبننا لهذا الزمن ابن موت كما يقولون وهؤلاء لا يمكن أن تستمر حياتهم في عالم تدمره الحروب والأوبئة.

عريسنا الذى رحل كان ابن لا يمكن أن تستمر حياتهم في عالم تدمره الحروب والأوبئة.

عريسنا الذي رحل وما أقسى كلمة الرحيل فضلَ أن يصعد الى عالم آخر أكثر صفاء وأمانا بدلاً من عالمنا الملوث.
يا لوجع القلوب.

ذهبت لمشاركة العزبي أحزانه، وتمنيت أن تسمح صحتي ألا اتركه وحده، خلال تلك الأيام العصيبة ووجدت بعض الزملاء جاء والتأدية واجب العزاء لأستاذهم الذي لم يبخل عليهم يوماً بالتوجيه والنصيحة.

يمتلك الرجل قدره خارقة، ألا يشرك أحدا أحزانه يتحملها وحده دون أن يزعج أحدا، يحتضنه العزبي آلام الأخريين ويشاركهم همومهم أما أحزانه فهي تخصه وحده ولا أحد غيره.

جئنا للتخفيف عن الرجل بعض أحزانه، فوجدناه يهدأ من روعنا، ثابتاً كالجبال راضياً بقضاء الله الذي حمي ولده من عذاب المستشفيات واختار له أن يموت في حجرة نومه وعلى سريره دون أن يعاني الإلام.

كان اليوم عادياً مثل كل الأيام السابقة، اتجه المهندس سامح الى عمله وعاد وهو يشعر بصداع.

سرعان ما استراح من آلامه عقب أن احتسى كوباً من الشاي ثم نام ولم يقيم بعدها.

قرر أن يغادر عالمنا دون أن يزعج أحد أو يرهق أحد ولم تشعر زوجته برحيله ألا عندما حوالنا إيقاظه من نومه الهادئ ولكنه لم يستيقظ بعدها ويتساءل العزبي، اليست هذه الميتة رحمة من الله، الذي يحب سامح.. إنها كذلك دون شك.

شجعنا العزبي على أن نطرق موضوعات عديدة من حديثنا ابعدنا بوعي كامل عن الحدث المزعج، وهذه طريقته في تجنيب ضيوفه الأحزان.

يصفون الرجل في مثل هذه الحال بان (السكينة سرقاه) بمعنى انه في الساعات والأيام الأولى نفقد أنسان عزيز لا يقبل عقل الإنسان الواقع المؤلم ويحاول أن يهرب من هذا الواقع.

يا لوجع القلوب:

العزبي ليس من ينطبق عليه هذا المثل انه يواجه أزمنة وحده ويدرك بوعي كامل حجم المصيبة التي حدثت وان كان أيمانه بالله ورضاءه بحكمة ربما يهئ له الراحة.

في كتابة الصحافة والحكم الذي صدر عام 2015، كتب العزبي تقديراً (لأبنى سامح الذي أخذ بيدي من عالم الكتابة الى عالم الانترنت الواسعة)

رحم الله سامح والهم أسرته الصبر والسلوان