هيرمس
شايل جيل

محاولة للفهم

نصف فرن في بلاط الجمهورية (7)

 

بعد ساعات من صدور قرار الرئيس أنور السادات، بنقل مصطفي بهجت بدوي، كاتباً متفرغاً في الأهرام، بدأ تحرك أصحاب منشورات (الصحفيون الوطنيون) وكشفوا عن أشخاصهمـ وأعلنوا أن التخلص من بدوي ليس نهاية المطاف، إنما كل من سانده في مواقفه المعارضة للرئيس وفق رؤيتهم.

قاد الحملة مدير تحرير الجمهورية "الطامح للحصول على أحد المتعصبين التي كان بدوي يتولاها، رئاسة مجلس الإدارة أو التحرير، فد كان الرجل (إبراهيم الورداني) يعلن دائماً انه الأحق بالمنصبين.

حشد الورداني عدد من أنصاره، واقتحم الحجرة التي يجلس فيها عبد العال الباقوري، أحد ثلاثة شبان كلفهم بدوي بكتابة (رأي الجمهورية) يشاركه محمد أبو الحديد وجلال سرحان، وحدد لكل منهم يوم للتعبير عن لموقف السياسي للصحيفة.

قدم هؤلاء الشبان رؤي سياسية عميقة، كان لها تأثيرها العميق لدي أصحاب القرار

توقع الورداني انه لن يجد مقاومة من هذا الشاب الوديع الذي فرض احترامه على الجميع، حتى الذين لم يرحبوا باهتمام رئيس التحرير بما يكتب، ولكن صدمة الورداني كانت قوية عندما وجد الشاب الوديع يتحول الى أسد يدافع عن عُربَتِه، ويتوعد كل من يحاول الاقتراب منه بانه سيجد ما لا يرضيه.

أتهم الورداني بدوي بانه يستعين (بالصبية) لكتابة أهم المقالات ويتجاهل أصحاب الخبرة.

وكان رد الباقوري الحاسم، نحن كبار ولا نحتاج الى شهادة من لا يفهمون في السياسة ولا الصحافة.

أنسحب المهاجمون دون أن تتحقق أهدافهم سواء في طرد الباقوري من المؤسسة، كمقدمة للتعامل مع الأخريين، ولا في لفت انتباه السلطة بأنهم الأمناء على مبادئ السادات وعقاب خصومه، خاصة بعد أن نسب الرئيس قوله إن مصطفي بهجت رجل طيب سيطر عليه الشيوعيون.

جاء رئيس التحرير الجديد محسن محمد.. ليطالب الجميع بالهدوء وان يتوقف كتاب التقارير الي الجهات الأمنية، وأنه وحده الذي سيتولى هذه المهمة.

كتب الرجل بضع كلمات إشادة بمصطفي بهجت بدوي وما قدمه للجمهورية وانه المسئول عن التعامل مع اليساريين.

قام محسن محمد منذ أول يوم، بأحداث تغيير للجمهورية وتحويلها من جريدة الرأي الى صحيفة شاملة تضع الأخبار في مقدمة اهتمامها وتبرز كل ما يهم القارئ من موضوعات خاصة بالفن والرياضة وحرك مكاتب المحافظات وكان يتصل يومياً بكل محافظة ويطلب الموضوعات التي يتحدث فيها الناس، وضاعف الاهتمام بالموضوعات الخاصة بالمرأة وطلاب المدارس والجامعات.

بينما كان بدوي يقول لست منزعجاً أن الجمهورية تحتل المكانة الثالثة في التوزيع مع الأخبار والأهرام طالما تقوم بدورها الوطني، وتدافع عن ثوابت ثورة يوليو.

جاء القادم الجديد ليعلن إنه سينافس الأهرام والأخبار في التوزيع ولن يقبل أن يكون رقم (3).

وحقق في هذا الإطار معجزة حقيقة.. أن يصل بالتوزيع الى 800الف نسخة في العدد اليومي ومليون نسخة في العدد الأسبوعي.

كشف الرجل عن مواهب عديدة بين شباب الجمهورية كانوا يحتاجون الى التوجيه وان يتحصنوا بالمهنية.. واستطاعت الجمهورية للمرة الأولي منذ سنوات أن تنفرد (بمنشتات) تتحدث عنها مصر كلها.

وحرص الرجل في نفس الوقت على الاستعانة بعدد من الزملاء المقربين من مصطفي بهجت، طالما لما تميزوا في عملهم .... ولم يرد بشأنهم تعليمات من الأجهزة الأمنية باعتبارهم معارضين للسادات.

وقبل هؤلاء التعامل معه اعترافاً بقدراته المهنية العالية، رغم الخلافات معه في أمور كثيرة.

كان أسلوب إدارة الرجل لأقسام الجريدة، جديداً على العاملين في الجمهورية، الذين اعتادوا على الاحترام المتبادل بينهم وبين رؤساء التحرير السابقين.

إدار الرجل الجمهورية وكأنه (ناظر عزبة) يتعامل مع عمال الزراعة (بالعصا والسكين) ... يدخل الى أحد المكاتب ويسأل كل صحفي.. لماذا لا تبحث عن خبر أو تقترح موضوع بدلا من جلوسك على المكتب طالما أنك لست "مشلولاً"!

ويحتار الصحفي الذي توجه اليه الإهانة المباغتة ويعجز عن الرد بينما رئيس التحرير يوجه إهانات أخري لغيره من الزملاء.

لم يعتد الصحفيون الصغار على تلك المعاملة الغربية عليهم، فما بالك بالكبار الذين تلقوا الإهانات بصدر رحب.. والحق أن الرجل كان لديه خبرة بالكبار الذين يقبلون مثل تلك الإهانات ويسعي من وراء ذلك الى إخافة الصغار.. فطالما أن الكبار يهانون فلا يجب أن يعترض الصغار وقد وصل الأمر الى أن أحد هؤلاء الكبار كان يسال محسن.. لماذا لم تقل لي صباح الخير ياحمار... هل أنت غاضب علي!

وعندما حاول محسن أن يخلط الجو بالهزل مع صلاح عيسى.. ردد له أمام الجميع أبيات الشعر التالية:

إذا أتتك مزمتي من ناقص

فهي الشهادة باني كامل.

(وحذره صلاح أمام الصحفيين بانه سيخسر كثيراً لو اتبع تلك الطريقة الغبية).

وعندما دخل محسن الحجرة التي تضم الأساتذة محمد عودة، وسامي داود، يوسف إدريس، ويتجمع حولهم عشرات اليساريين، حتى أطلق عليه البعض (المركز الثقافي السوفيتي) حذره أمير أسكندر – وفتحي عبد الفتاح وعبد السلام مبارك ومصطفي كمال.. من أي تجاوزت يمارسها مع الأخريين

لم يتغافل محسن وسط اهتمامه الزائد بتطوير الجمهورية المهمة الأساسية التي أختاره السادات للقيام بها، وهي التخلص من الكتاب والصحيفين اليساريين، الذين أصابوه بالصداع، سواء باعتراضهم على التصالح مع إسرائيل والعداء للأشقاء العرب، وتعاونه الكامل مع جماعة الإخوان المسلمين.

اتخذت خطة التخلص عدة مسارات الأول النقل الى صحف آخري بلا مسئوليات محددة، كما حدث مع حسين عبد الرازق وفريدة النقاش.. حيث نقلا للأخبار.

والمسار الثاني أعتمد على "تطفيش" هؤلاء الصحفيين وإجبارهم على مغادره الجمهورية " ... وانه لا مكان لهم فيها.

عندما قدم مصطفي كمال عدة موضوعات خاصة بالسياسة الخارجية، أعجب بها محسن.. وعزم على نشرها، واستدعي أحد مساعديه (علاء دواره) وطالبه بنشر الحلقات في العدد الأسبوعي دون ذكر أسم الكاتب.

وعندما سأله مصطفي عن سبب ذكر أسمه، أجاب محسن إن هذا حطأ يتكرر كثيراً ... وأنت صحفي كبير لا يجب أن نتهم بمثل تلك الصغائر!

وتكرر تجاهل الاسم في المقال الثاني، وتظاهر محسن بالغضب الشديد، وحمل مساعدة علاء المسئولية لأنه يكره الشيوعين، وكتب على ورقة دشت "يخصم راتب شهر" من علاء داوره.

واخذ مصطفي الطيب يدافع عن علاء ويرجو من محسن ألا يخصم راتبه لأنه يقبض 48جنيهاً ومدين للبوفيه بضعف هذا المبلغ.

بينما محسن يصر على انه لن يتراجع ... انه سيخصم نصف راتبه فقط استجابة لرجاء مصطفي.

في المرة الثالثة أقتنع مصطفي بأن علاء هو المسئول.. ودخل الى غرفته وأقفل الباب من خلفه، وقال له أما أن تفسر موقفك مني.. أو سأقتلك.

رد علاء: ألم تصلك الرسالة بعد أستاذي ... هل بمقدوري وأنت أقرب الناس الى أن أفعل ذلك معك.

وصلت الرسالة أخيراً الى مصطفى وكان من يري الصحفيين في السياسية الخارجية، ووافق على عرض قديم تلقاه من أحدي الصحف الكبرى في دولة خليجية ورفضه بشدة، غادر مصر الى عشقها ودفع أغلي سنوات عمره في السجون من اجل أن تتقدم استمر بعيداً أكثر من عشرين عاماً.. وعاد ليدفن في ترابها.

ومن المضحكات المبكيات أن محسن حاول مع الكاتب الكبير محمد العزبي أن يقنع أحد الكتاب الذي قدما موضوعاً كان موضوعاً رضاء العزبي.. بانه لن ينشر.

وسأله العزبي.. ولكني أبديت أعجابي بالموضوع فكيف أتراجع.

قال محسن ... تستطيع أن تقدم أي تبرير لعدم النشر رد العزبي.. لدي اقتراح أكثر جدوى سأقول للزميل أنك رفضت الموضوع وهذه من سلطاتك كرئيس تحرير الأمر بسيط.

نظر محسن بعتاب الى العزبي وقال يبدو أننا لن نصلح للتعاون معاً.

دار المسار الثالث للتخلص من اليساريين، لم يختاره محسن.. وإنما الأجهزة الأمنية التي بدأت حملة اعتقالات شملت صلاح عيسى وأثنان من الزملاء لم تتم إجراءات تعينهما، وهما عبد القادر شهيب وأسامة الغزالي حرب.

وكان يعملا بقسم الأبحاث كان يرأسه الصديق فتحي عبد الفتاح وكان القسم الوحيد في الصحافة العربية وكان مصطفي بهجت من أشد المتحمسين لهما فقد كان له موقف أنساني مع شهيب، عندما دفع كفالة مائة جنيه دون معرفة سابقة به، عندما طلب منه حسين عبد الرازق أن يساهم في تلك الكفالة فأصر بدوي على أن يدفعها ولم يكن ذلك مبلغاً قليلاً أيامها.

أفرج عن شهيب وجاء للعمل بالجمهورية في قسم الأبحاث.. واعتقل في عام 1975 لستة أشهر، وجاء محسن محمد ليقرر أبعاد شهيب وأسامة

يكتب عبد القادر شهيب عن تلك الواقعة في كتابة في بلاط صاحبة الجلالة.

حل محسن محمد محل مصطفي بهجت بدوي في رئاسة مؤسسة وتحرير الجمهورية، فكان نصيبي أنا وأسامة الأبعاد من الصحيفة طلبت أن أقابله املاً أن يعدل عن قراره، فوجئت به يقول لي بصراحة شديدة وقاسية: أن لم أتخذ قرارا فقط بمنعكم من الكتابة في الجمهورية " إنما اتخذت قرار بمنعكم من مجرد دخول المؤسسة، وهذه آخر مرة سوف تدخل فيها هذا المبني.

وكتب أسامة الغزالي.. انه كان المفروض أن يتم تعيينه عندما كان رئيس مجلس الإدارة الأستاذ مصطفي بهجت، ولكن اعتقاله عام 1975، اجل التعيين، فلما خرجت من المعتقل كان قد تولي المنصب الأستاذ محسن محمد، فذهبت اليه أطالبه بتنفيذ القرار فقال بصراحة مدهشة (يا بني لقد أتيت الى هذه المكان لكي أمنع تعيين أمثالك) فتركت الجمهورية وقد اسودت الدنيا في عيني.

وللحديث بقية،