هيرمس
شايل جيل

معاً للمستقبل

في أهمية العطاء..ورسالة شيخ الأزهر

 

    ما أجمل العطاء فهو ينبوع يسكب شلال النور ليس فيمن حولنا فحسب بل في نفوسنا نحن ..وبقدر ما نعطي بقدر ما نسعد، ونتطهر من الشح والأنانية وحب التملك ..و من يفهمون العطاء على أنه فضل مال تهبه للسائل والمحروم فقد فاته من الخير الكثير؛ ذلك أن العطاء مفهوم أشمل وأوسع من ذلك بكثير، فنحن لا نستطيع أن نسع الناس بأموالنا مهما أوتينا منها بل نسعهم بأخلاقنا وبكلمة طيبة وابتسامة حانية رائقة تخلو من كدر الحياة ومنغصاتها وأحقادها..الكلمة الطيبة قمة العطاء لا يحسنها إلا ذوو النفوس العالية فهي مفتاح القلوب ورسول المحبة الذي لا يضل غايته أبداً.

من اعتادوا العطاء يضفون دائماً لمسة حانية على حياتنا، وتراهم بسطاء في تعاملهم مع من حولهم، سعداء بما يقدمون.

ومع صخب الحياة وسرعة إيقاعها وقسوة ظروفها وتداعي الفواجع والجائحات تزداد حاجة البشر للعطاء.. لكن زحمة الأحداث تنسينا أن هناك أناساً يحتاجون منا مشاعر حب صادق ثم نكتشف في لحظات المحن كم كنا مخطئين واهمين مقصرين؛ فالاهتمام بمن حولنا سلوك إنساني يرقى بمشاعرنا، ويفتح لنا أبواب السعادة؛ فالإحساس بالآخرين يصنع جسوراً للتواصل معهم، ويجعل لحياتنا قيمة ومعنى وهدفاً أسمى.. بينما تجاهلهم أو إهمالهم ظلم لأنفسنا قبل أن يكون ظلماً لهم..فالانكفاء على الذات والإفراط في حب الأنا الذي زادت وتيرته في زمن التكنولوجيا والفضاء الافتراضي يعمق الشعور بالإحباط والملل ولا يجدي معه المظاهر الخادعة ولا تعوضه النزعة الاستهلاكية.      

 ويتفاضل الناس في معادنهم، وتتجلى خصالهم في التعامل مع الناس؛ فالصادق لا تتغير معاملته بتغير أوزان من يعاملهم، فمبادئه واحدة مع الجميع يستوي أمامه المسئول الكبير والعامل البسيط؛ فكلنا أمام الله سواء لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.

والناس في عطائهم مذاهب؛  فمنهم- كما يقول جبران خليل جبران- من يعطون قليلاً من الكثير الذي عندهم وهم يعطونه لأجل الشهرة ، ورغبتهم الخفيّة في الشهرة الباطلة تضيع الفائدة من عطاياهم  .

ومنهم من يملكون قليلاً ويعطونه بأسره  . ومنهم المؤمنون بالحياة وبسخاء الحياة . هؤلاء لا تفرغ صناديقهم وخزائنهم ممتلئة أبداً .

ومن الناس من يعطون بفرح . وفرحهم مكافأة لهم .

ومنهم من يعطون بألم . وألمهم معموديّة لهم .

وهنالك الذين يعطون ولا يعرفون معنى للألم في عطائهم ، ولا يتطلّبون فرحاً ، ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم . هؤلاء يعطون مما عندهم كما يعطي الريحان عبيره العطر في ذلك الوادي.

بمثل أيدي هؤلاء يتكلم الله ، ومن خلال عيونهم يبتسم على الأرض.

جميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليه ،

ولكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك وأنت تعرف حاجته  .. فإن من يفتح يديه وقلبه للعطاء يكون فرحه بسعيه إلى من يتقبل عطاياه والاهتداء إليه أعظم منه بالعطاء نفسه. 

ويتساءل جبران: هل في ثروتك شيء تقدر أن تستبقيه لنفسك ؟ فإن كل ما تملكه اليوم سيتفرق ولا شكّ يوماً ما ، لذلك أعطِ منه الآن ، ليكون فصل العطاء من فصول حياتك أنت دون ورثتك  .

وقد طالما سمعتك تقول متبجّحاً : " إنّني أحبّ أن أعطي ، ولكن المستحقين فقط ".. فهل نسيت ، يا صاحِ ، أن الأشجار في بستانك لا تقول قولك ، ومثلها القطعان في مراعيك ؟

فهي تعطي لكي تحيا ، لأنها إذا لم تعطِ عرّضت حياتها للتهلكة  .

المعطاء يقدم لنا الوجه الجميل لهذا العالم، يبث فينا دفء الأمل..والأمثلة من حولنا كثيرة؛ فمثلا بيل جيتس وهب الجزء الأكبر من ثروته لخدمة الضعفاء والمعوزين..وكم تمنيت لو كان عندنا أكثر من نموذج مثل بيل جيتس؛ ولو أن لكورونا لسانا يتكلم لاشتكت من شح البشر و تقتيرهم في العطاء.. يستوى في ذلك أغنياء الأفراد وأغنياء الدول..وكان حرياً بالبشرية أن تتنادى بالتكافل والتضامن بين الإنسانية جمعاء؛ فلم يُخلق الإنسان ليحيا وحده مُنعَّماً مترفاً، نهِماً في استهلاكه، مشبعاً أنانيته، مرضياً نهمه دون أن يتشارك مع غيره في تلك النعم الربانية.

المعطاء قريب من الله، قريب من الناس..وفي قرآننا تقدم العطاء المطلق على التقوى "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى"..ففي التقوى رضا الله وفي العطاء رضا الناس..ومن يجمع بين رضا الله ورضا الناس فقد أوتى حظاً عظيماً ونَعِم بسعادة كبرى..فلننظر إلى فيض الله علينا لنتأمل في أنفسنا وأنفاسنا والنعم التي نرفل فيها من لدن رب كريم واهب الصحة والرزق والأمن ..فكل يوم تشرق علينا الشمس ونتنفس هذا الهواء ونشرب ذلك الماء..ونعم الله لا تعد ولا تحصى وهي واجبة الشكر ليس باللسان فحسب بل بحفظها وأداء حقها؛ صدقة وزكاة وإنفاقاً في مصارف الخير كافة.

وهذا ما  نبهنا إليه حديث نبينا الكريم " كل سُلامي من الناس عليه صدقة".

ورأيي أن العطاء  ثقافة متوارثة يمكن اكتساب كثير من مهاراته بطريق القدوة العملية؛ بالتمرين والتدريب والتعليم.. والبداية تأتي من الأسرة ثم المدرسة وما شابهها؛ فحين يرى الطفل العطاء سلوكاً يومياً يبذله من حوله في رضا وإيمان ينشأ سخياً مستعداً للجود والبذل دون انتظار مقابل من أحد..وهذا ما كانت عليه بيوتنا في الزمن الجميل ..كان أهالينا يجودون بما استطاعوا من طعامهم ومزارعهم وبيوتهم وأنفسهم وأغلى ما يملكون فيتخرج في بيوتنا أجيال تلو أجيال من المعطين الأجاوِد.

وفي سيرة نبينا الكريم صور عديدة وقصص كثيرة تحكي كيف كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يدرب أهله ويعلم صحابته مهارات هذه القيمة العظيمة..  قالت عائشة رضى الله عنها " دخلَ عليَّ سائلٌ مرَّةً وعندي رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فأُمرتُ لَه بشيءٍ ثمَّ دعوتُ بِه فنظرتُ إليهِ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أما تريدينَ أن لا يدخلَ بيتَك شيءٌ ولا يخرجَ إلَّا بعلمِك.. قلتُ نعم قالَ مَهلًا يا عائشةُ لا تُحصي فيُحصيَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عليكِ".

أبواب العطاء كثيرة والكل مدعو للمشاركة فيها كلٌ حسب طاقته وقدرته، وكلنا قادرون على العطاء فإن لم يكن بالمال فبالعلم أو العمل أو تعليم الناس وتدريبهم أو التطوع بجزء من الوقت لتعليم الأميين ومساعدة المحتاجين وقضاء مصالحهم .. الكلمة الطيبة عطاء والسماحة والعفو والتجاوز عن الإساءة والتسامح ألوان من العطاء يمكن لكل إنسان أن يمارسها إذا صفت نفسه وآمن بأنه إنما يحسن بها إلى نفسه قبل أن يحسن إلى غيره  يقول تعالى:"وما تنفقوا من خير فلأنفسكم".

أما موعد العطاء الذي لا ينبغي لأحد أن يتخلف عنه فهو وقت الشدائد والأزمات حين يسود الشح وتستشري الأنانية ويؤثر الخلق مصالحهم الشخصية أفراداً ودولاً ..إلا أهل العطاء الذين اختصهم الله بتلك الفضيلة فم إذ ذاك يضربون موعداً مع الإيثار فلا تجد في مجتمعاتهم تلك الصور السلبية المفجعة من احتكار السلع والغش والطمع والغلاء والتسابق وأخذ الفرد أكثر من حقه..وهؤلاء قد يكونون في حاجة لما في أيديهم لكنهم مجبولون على العطاء، يتنازلون عن إشباع تلك الحاجة إغناءً للآخرين  ولعل أبلغ وصف لهم ما جاء في كتاب الله العزيز" ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" ..وتلك أعلى مراتب العطاء لأنهم يحسون بالآخرين ويشعرون بحاجتهم..وبمثل هؤلاء تهون المصائب وتمر المحن.

مثل هذا الإيثار نفتقده اليوم في عالمنا رغم غناه وتنوع موارده ورغد معيشته..العطاء هنا صورة من صور الانتماء للوطن وحبه وشعور كل فرد بالآخر وتحمل المسئولية تطوعاً ورغباً..فمسئولية العطاء مشتركة بين الجميع فإذا لم نتعاضد وقت الأزمات انهارت المجتمعات وتلاشت أواصر الود بين أفرادها.

أهل العطاء وقت الشدائد يتسابقون للبذل، ويسارعون في الخيرات وليس أشد على البشرية من الأوبئة والجائحات وليس أفجع من فقد الأحبة جراء إصابتهم بكورونا وهنا يكون الإيثار أعلى مراتب العطاء..وعلى الدول الغنية أن تسارع بإمداد الدول الفقيرة بلقاحات كوفيد 19 إنقاذا للبشرية من وباء فتاك ينهش شعوب الدول الفقيرة بلا هوادة.

وليتنا نجعل من يومنا نصيباً للعطاء وليتصدق كل منا ولو بجنيه واحد ونعوِّد أبناءنا أن يكونوا كرماء ونعطيهم من أنفسنا قدوة في عمل الخيرات فنصحبهم لزيارة اليتامى والمحتاجين ونزرع البسمة والفرحة على وجوههم وننشر الطاقة الإيجابية أينما حللنا ونبذل لأوطاننا بلا حدود ..بهذا يتحقق الفلاح والنجاح والسعادة ويزداد الحب وتنتعش الحياة.

ما يقال على الأفراد ينطبق على الدول والشعوب..ولعل شر الناس والدول من منع خير الله ونعمه عن عباده مثلما تحاول حكومة أثيوبيا بتشددها وتعنتها في قضية سد النهضة ومحاولة بسط سيادتها على النيل والافتئات على حقوق دولتي المصب..وهنا نردد مع شيخ الأزهر فضيلة الإمام الأكبر د.أحمد الطيب قوله" إن هناك ظاهرة خطيرة ظهرت حديثاً وهي ادعاء ملكية بعض الموارد الطبيعية والاستبداد بالتصرف فيها بما يضر بحياة دول أخرى..إن الدين عند من يؤمن به ويحترم قوانينه يحكم حكماً صريحاً بأن ملكية الموارد الضرورية لحياة الناس هي ملكية عامة، ولا يصح بحال من الأحوال وتحت أي ظرف من الظروف أن تترك هذه الموارد ملكاً لفرد أو أفراد أو دولة تتفرد بالتصرف فيها دون سائر الدول المشاركة لها في هذا المورد العام أو ذاك..مشدداً أن هذا من أمس ما يتعلق بموضوع الإفساد في الأرض ويجب أن يتكاتف العالم لوقفه قبل أن تنتقل عدواه إلى نظائره من البيئات والظروف المتشابهة، مؤكداً أن الماء بمفهومه الشامل الذي يبدأ من الجرعة الصغيرة، وينتهي بالأنهار والبحار يأتي في مقدمة الموارد الضرورية التي تنص شرائع الأديان على وجوب أن تكون ملكيتها جماعية مشتركة، ومنع أن يستبد بها فرد أو أناس أو دولة دون دولة أخرى فهذا المنع أو الحجب أو التضييق على الآخرين إنما هو سلب لحق من حقوق الله تعالى وتصرف من المانع فيما لا يملك، وأن سبب هذا المنع المشدد هو أن الله تعالى لما جعل الماء أصل الحياة على اختلاف أنواعها خصّ نفسه سبحانه بتفرده بملكيته وبإنزاله من السماء إلى الأرض وجعله حقاً مشتركاً بين عباده، وأن أحداً من عباده لم يصنع منه قطرة واحدة حتى يكون له شبهة تملك تخوله حق تصرف المالك في ملكه ليمنحه من يشاء ويصرفه عمن يشاء، وأن من يستبيح ذلك ظالم معتدٍ يجب على الجماعات المسئولة محلياً وإقليمياً ودولياً أن تأخذ على يديه وتحمي حقوق الناس من تغوله وإفساده في الأرض ..والدين حذر من الفساد في الأرض " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها".

ما أرجوه أن تكون رسالة شيخنا الجليل قد وصلت إلى أسماع آبي أحمد ومن يحكمون أثيوبيا ومن يحرضون على منع تدفق النهر في اتجاه دولتي المصب والإضرار بحياة عشرات الملايين من أبنائهما..فالمياه هبة الله الخالق وليس من حق الخلق أن يمنعوا ما أعطاه الله لعباده..فهل وصلت الرسالة؟!