هيرمس
شايل جيل

شهادة

سد النهضة .. ومؤامرة بنوك المياه

 

فى أحدث كتبه " سد النهضة .. لعبة بنوك المياه فى دول حوض النيل " يكشف زميلنا القدير مصطفى خلاف الصحفى المتخصص فى شئون الاقتصاد والزراعة والمياه أبعاد المخطط  الذى أعد منذ عقود للإضرار بمصالح مصر ، ويجرى تنفيذه حاليا بأيدى إثيوبيا وقوى إقليمية أخرى تسعى لتحويل سد النهضة ليكون أول بنك للمياه فى العالم ، يتم من خلاله التعامل مع المياه كسلعة تباع وتشترى شأنها شأن البترول ، طبقا لما جرى طرحه من قبل على استحياء  ضمن أوراق ودراسات خاصة بالبنك الدولى . 

المشكلة إذن ليست مجرد إنشاء سد لتوليد الكهرباء وتلبية احتياجات التنمية ، وإنما هى ـ كما يكشف الكتاب الخطير ـ مؤامرة متعددة الأطراف للإنقلاب على الأعراف والاتفاقيات المتعلقة بالأنهار الدولية ، التى تمر فى أكثر من دولة ، هذ الإنقلاب يقوده البنك الدولى الذى تبنى المفاهيم الخاصة بتسعير وخصخصة المياه فى تقريره المنشور عام 1997 تحت عنوان " من الندرة للأمان " ، وهذا التقرير يرسم  إطارا عاما لسياسة طويلة المدى لإدارة عرض المياه والطلب عليها فى الشرق الأوسط ، ويرى أن الأسلوب الأمثل هو إقامة سوق عالمية وإقليمية للمياه تشبه البورصة ، ومن العجيب أن هذا التقرير تزامن مع دراسة مشابهة أعدتها جامعة هارفارد الأمريكية عن مشكلة المياه فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتبنت فيها هى الأخرى فكرة تسعير المياه .

ويشير الكتاب الذى جاء فى وقته تماما إلى أن أخطر السيناريوهات التى تتكشف تباعا  تتلخص فى إنشاء مجموعة من السدود بامتداد الهضبة الإثيوبية لتخزين المياه والتحكم فيها ، فلن يكون سد النهضة آخر المطاف ، وهذا هو التحدى الكبير الذى تواجهه مصر من أجل الحفاظ على حصتها التاريخية البالغة 55,5 مليار متر مكعب فى العام ، والتى تتنصل إثيوبيا الآن من الاعتراف بها والالتزام بتأمينها .  

والمؤكد أن مشروع سد النهضة والمشروعات المائية الأخرى ستؤدى فى ظل غياب إطار قانونى قوى وفاعل وملزم لجميع الأطراف إلى انتقاص مايقرب من 8 مليارات متر مكعب من حصة مصر ، وهو مايعنى دخولها فى شح مائى شديد يلغى دور السد العالى ويعطله عن إنتاج الكهرباء بالكامل ، ويؤثر على هيكل الإنتاج الزراعى فى مصر وعلى مشروعات التوسع الأفقى والخطط الخاصة بالاستصلاح الزراعى التى يجب أن تتوازى مع الزيادة السكانية المطردة ، وسيمتد التأثير ليشمل زيادة استيراد المواد الغذائية من الخارج ، وتقليص الصناعات التى تعتمد على استخدامات المياه ، وفى العمو سيصبح هذا الشح المائى كابوسا يهدد حياة المصريين .

وفضلا عن ذلك ستتيح السدود لإثيوبيا التحكم فى كميات المياه التى تتدفق لدولتى المصب ، مصر والسودان ، ومنع وصول الطمى إليهما مما سيغير من نظام النهر ويزيد قدرته على النحر فى جانبيه وتعميق مجراه ، ويجعل منه نهرا صعب المراس تحتاج حماية جسوره والأراضى التى تحفه والمنشآت المقامة عليه إلى جهد أكبر وتكلفة أعلى .

ورغم غزارة المعلومات التى حشدها الزميل مصطفى خلاف فى كتابه حول المخطط الجهنمى فقد بنت مصر استرتيجيتها على التعامل مع أزمة سد النهضة على تفادى الصدام والتفاوض بحسن نية لتحقيق المصالح المشتركة على قاعدة " لاضرر ولا ضرار " ، واعترفت بحق إثيوبيا فى التنمية وإقامة السد لتوليد الكهرباء بشرط ألا يؤثر ذلك على حصتها المائية ، ووقعت اتفاقية إعلان المبادئ عام 2015  ، وخاضت مفاوضات طويلة ومرهقة انتقلت بها من عاصمة إلى أخرى حتى انتهت فى واشنطن ، حيث تم التوصل إلى اتفاق برعاية أمريكية وقعت عليه مصر بالأحرف الأولى بينما رفضت إثيوبيا التوقيع ، ولم تبد جدية فى التوصل إلى اتفاق بديل ، بل رفضت أى حديث عن اتفاق ملزم . 

أما استراتيجية إثيبيا فتقوم على المماطلة والمراوغة واختلاق الأعذار والأكاذيب أملا فى أن يأتى اليوم الذى تجد فيه مصر نفسها أمام الأمر الواقع وقد اكتمل بناء السد فتستسلم ، وفى هذا الإطار ظل الخطاب الإثيوبى بشأن سد النهضة يتأرجح طوال السنوات الماضية بين المهادنة والاستقواء ، ويتخبط فى متاهات الأكاذيب وإنكار الحقائق وتوزيع الاتهامات ، متصورا أنه بذلك قادر على أن يكسب تعاطفا دوليا يسوغ  له البدء فى مرحلة الملء الأولى للسد بدون اتفاق مع الشريكين الآخرين الجارين ، مصر والسودان .

وأمام هذا التعنت لم تجد مصر مخرجا إلا الذهاب إلى مجلس الأمن ووضع المجتمع الدولى أمم مسئولياته لحمل إثيوبياعلى وقف تصرفاتها أحادية الجانب ، وعدم الإقدام على ملء خزان السد إلا باتفاق مسبق مع شريكيها ، والاعتراف بحق هذين الشريكين فى مياه النيل ضمانا للسلم والأمن الإقليميين ، ومؤخرا أعلن وزير الرى السودانى ياسر عباس أن بلاده سوف تتجه أيضا إلى مجلس الأمن لتشترط على إثيوبيا توقيع اتفاق قبل البدء فى ملء الخزان ، ومن المتوقع أن يعقد المجلس جلسة حاسمة لهذه القضية بعد غد الاثنين .  

وقد نجح التحرك المصرى فى وضع إثيوبيا فى موقف الدفاع ، فوجهت مذكرة إلى مجلس الأمن تفيض كذبا وافتراء ، إذ ادعت فيها أن مصر لم يكن لديها النية منذ البداية لإنجاح المفاوضات والتوصل إلى حل ، وأنها جادة فى التوصل لاتفاق قبل ملء السد لكن مصر هى التى تعرقل هذا الاتفاق وتحرض السودان ولا تريد الاستمرار فى المفاوضات ، وأن التحركات المصرية الأخيرة والمفاجئة بتدويل القضية والتوجه إلى مجلس الأمن تتناقض مع اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة من الدول الثلاث عام 2015 ، وأنها سوف تبدأ فى الملء الأولى للسد باتفاق أو بغير اتفاق مستندة إلى هذه الاتفاقية . 

وتظهرتصريحات وزير الشئون الخارجية الإثيوبى جيدو أندارجاشيو التى يوزعها حاليا على وسائل الإعلام أن حكومته تخلت عن القواعد الدبلوماسية الرصينة التى تحكم العلاقات بين الجيران ، فهو يدعى أن المشكلة مع النظام وليست مع الشعب المصرى ، وأن الدول العربية والأفريقية تؤيد حكومته ، وأن إثيوبيا ليست معنية بأية اتفاقيات قديمة وقعتها مصر فى زمن الاستعمار ، وبالتالى لاتعترف بأية حقوق تاريخية لمصر والسودان فى النيل ، ومثل هذه التصريحات الاستفزازية المتعجرفة لا ترهبنا ولا تهز موقفنا الثابت ، لأنها ببساطة تعبر عن مواقف مهترئة تتصادم مع قواعد الشرعية الدولية التى اعتمدتها الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية التى تتخذ من العاصمة الإثيوبية أديس ابابا مقرا لها .

والحقيقة التى لامراء فيها أن مصر بذلت ، وما زالت قادرة على أن تبذل مافى وسعها للحفاظ على كل نقطة ماء فى النيل ، وقادرة على حماية حقها التاريخى ، الذى هو حق الأجيال القادمة ، ولن تفرط فيه مهما كان الثمن ، هذه هى رسالتنا لأثيوبيا والقوى التى تقف وراءها .