هيرمس
شايل جيل

اخر الاسبوع

السكة الحديد رؤية شاهد عيان

اعتدنا ألا نطلق كلمة "عسكري" إلا علي فرد القوات المسلحة. أو فرد الشرطة. فنقول في أدبياتنا: عسكري جيش.. أوعسكري بوليس. 
لكن.. هل سمعت في حياتك عن وجود فئة من العاملين المدنيين بالدولة المصرية. يعيشون بيننا. ويطلق عليهم لفظ العساكر.. وعلي الفرد منهم كلمة عسكري؟! 
قليلون من بيننا من يعرفون هذه المعلومة. وهم غالبا افراد أسر هؤلاء العاملين. وطائفة محدودة من القريبين منهم. بالجوار أو النسب. لأنه ليس من مهام هؤلاء العاملين التعامل أصلا مع الجمهور. 
اتحدث عن فئة تسمي: عساكر الدريسة. ويحمل الفرد فيها لقب عسكري دريسه. 
هؤلاء العاملون يمثلون أولي درجات السلم الوظيفي في قطاع "هندسة السكة" وهو أحد القطاعات الرئيسية بمرفق السكة الحديد إلي جانب قطاعات الوابورات والاشارات والمزلقانات وغيرها. 
هؤلاء تنحصر مسئوليتهم الوظيفية في ضمان سلامة خطوط السكة الحديد من حيث القضبان. والفلنكات الخشبية المرتبطة بها. وما يتعلق بالاثنين من أدوات ضبط وربط. وما تحتاجه تلك الخطوط من عمليات احلال وتجديد. 
وهم موجودون في كل محطة سكة حديد علي امتداد مصر. وبأعداد تناسب حجم المحطة والمسافة من الخطوط التي يتحمل هؤلاء مسئوليتها. ولهم مساكن حكومية أنشئت من طابق واحد مع انشاء السكة الحديد في مصر. ملاصقة في موقعها لكل محطة أو قريبة منها. ويقودهم ملاحظون. ويتابعهم مفتشون. 
وليس هدفي من هذه المقدمة الحديث عن هذه الفئة بالذات. ولكن هدفي هو التقاط المغزي الكامن وراء هذه التسمية. والذي نحن اليوم أحوج ما نكون الي استعادته. 
إن كلمة "عسكري" تستدعي إلي الذهن فور سماعها في أي مكان في العالم. ثلاثة معان رئيسية هي: الأمن.. الانضباط .. الولاء. 
هكذا كان ينظر من أنشأوا السكة الحديد المصرية. ووضعوا أول توصيف وظيفي للعاملين بها. إلي ما يجب أن تتحلي به القاعدة الرئيسية من العاملين في هذا المرفق الحيوي من صفات. تنسحب بالتبعية علي بقية زملائهم بقطاعات المرفق المختلفة. 
فمن البديهي أنه لا سكة حديدية بدون قضبان.. ولاقضبان بدون قواعد خشبية ترتكز عليها وهي الفلنكات.. ولا سلامة للاثنين بدون أدوات ضبط وربط قوية لتثبيتهما معا.. حتي لوجئنا بأحدث الجرارات والقطارات. وأفضل نظم ميكنة الاشارات والمزلقانات. 
ولهذا أطلقوا علي هذه الفئة من العاملين كلمة "عساكر".. إشارة إلي ارتباط وظيفتهم بهذه المعاني الثلاث: الأمن.. الانضباط.. والولاء. ارتباطا وثيقا. فهم مسئولون عن أمن الخطوط التي هي أساس المرفق كله ويعملون بانضباط وولاء لايقل عن انضباط وولاء العالمين بالمؤسستين العسكرية والشرطية. ولذلك تم تمييزهم بزي خاص يناسب وظيفتهم. 
لقد كان عمل هذه الفئة يبدأ يوميا مع شروق الشمس. صيفا أو شتاء. حيث يقومون بالمرور.. سيرا علي الأقدام علي خط السكة الحديد في المسافة المحددة لهم ما بين محطتين. والتي تقدر بعدة كيلو مترات. يختبرون سلامة القضبان. ومتانة القواعد الخشبية التي ترتكز عليها. ويتأكدون من قوة المسامير والصواميل الحديدية التي تربطهما. ويقومون بإبلاغ رئاستهم عن أي خلل يكتشفونه ويتلقون علي الفور التعليمات اللازمة لاصلاحه. 
وقد سرت هذه الروح في الماضي في كل العاملين بمرفق السكة الحديد.. فانضبط كل شئ فيه. حتي كنا نردد دائما إننا نضبط ساعاتنا علي مواعيد القطارات. إشارة إلي انتظامها. 
هذا لايعني أنه لم تكن هناك مشاكل.. أو لم تقع حوادث.. لكنها كانت محدودة. وكانت خسائرها في الغالب مادية اكثر مما هي بشرية. وكان يتم التغلب عليها أو تسوية آثارها بطريقة مهنية واحترافية داخل المرفق. 
وربما لا أتجاوز الحقيقة اذا قلت علي سبيل المثال. ان عدد من تمت إقالتهم أو أطاحت بهم حوادث السكة الحديد من قيادات المرفق خلال العقود الثلاثة الأخيرة. يفوق أعداد من تعرضوا لذلك من القيادات عبر تاريخ السكة الحديد المصرية بأكمله. 
ما الذي جري خلال العقود الاخيرة وأدي إلي ذلك؟! 
الإجابة بالتأكيد هي أنه جري الكثير. وبالذات فيما يتعلق بالعنصر البشري. ليس في مرفق السكة الحديد وحده بل في كل مرافق الدولة المدنية بلا استثناء. 
والحل هو استعادة المعاني الثلاثة التي غابت أو تم تغييبها خلال العقود الاخيرة: الأمن - الانضباط - الولاء. 
مرفق السكة الحديد أمن قومي.. هذا لاشك فيه. ولايجب ان يغيب عن أحد.. فما هو الأمن القومي إذن. إن لم ينطبق علي مرفق مسئول عن نقل ستة ملايين مصري يوميا بين جميع محافظات مصر. وضمان سلامتهم وأمنهم. رائحين وغادين من بيوتهم وأشغالهم. 
ولايمكن حماية الأمن القومي. دون انضباط وولاء كاملين من العاملين به.. هذه أبجديات العمل الوطني. 
إن مشكلة السكة الحديد ليست مشكلة إمكانيات مادية.. فلديها أصول عديدة غير مستغلة الاستغلال الأمثل. ويمكن بأفكار من خارج الصندوق - استثمارها وتحويلها إلي مصادر دخل وايرادات غير محدودة ومنها مثلا: 
* أراضي حرم السكة الحديد بمساحات خيالية علي امتداد خطوط المرفق. دون أي استغلال. 
* محطات السكة الحديد. وقد تحولت نظائرها في أوروبا وأمريكا مثلا إلي مزارات سياحية ومنصات إعلانية. وبوابات جاذبة لكل من يدخلها. ومغرية له علي الانفاق لتصبح مصدر دخل للمرفق. 
* الفاقد الهائل من قضبان السكة الحديد والفلنكات المستهلكة التي يجري الاستغناء عنها. والتي تبلغ قيمتها السوقية مئات الملايين من الجنيهات. ومتروك معظمها دون تخزين جيد. ودون استغلال. أو بيع في مزادات. فتتعرض للسرقة والنهب. 
الأمل كبير كبير. في الفريق كامل الوزير. في إعادة معاني الأمن والانضباط والولاء إلي كل العاملين بالمرفق. وإلي تطبيق معايير الصلاحية البشرية والمهنية الدقيقة علي الجميع.. فالرجل لم يعرف. منذ عرفناه. سوي النجاح في كل موقع تولاه أو عمل أداه. ابتداء من حفر قناة السويس الجديدة. إلي آخر ما أشرف علي تنفيذه من مشروعات اسكان وزراعة وطرق وغيرها. 
والأمل اكبر. ليس فقط في تجاوب العاملين معه.. بل فينا نحن أيضا.. أي كل من يتعاملون مع مرفق السكة الحديد.. وحتي من لايتعاملون معه ولكن لديهم الحس الوطني. الذي يدفعهم إلي المساعدة علي حماية هذا المرفق الحيوي بكل ما يستطيعون. 
* ملحوظة شخصية : لا أكتب هذا من فراغ.. بل لأني أتشرف بأني أنتمي إلي أسرة "سكة حديدية" فأبي بدأ حياته العملية. مثل أبيه الذي هو جدي "عسكري دريسة" وترقي فيها مثله أيضا حتي وصل الي درجة "مفتش" عبر رحلة طويلة قطعها في الخدمة متنقلا ما بين محافظة البحيرة وحتي الأقصر واسوان مرورا بالجيزة والقاهرة قبل أن يحال للمعاش عام 1963وعمري وقتها 19 سنة.. أي أنني كنت شاهد عيان لكل ما أقل كما عمل شقيقي الأكبر في الادارة المالية للمرفق وفقدت شقيقي الأصغر النقيب مهندس قوات مسلحة في حادثة قطار بشتيل الشهيرة في مطلع الثمانينيات.