هيرمس
شايل جيل

السير عكس معتقدات ثراء المغتربين

المغتربون غالياً نوعان: الأول يسافر بمفرده بلداً خليجياً أو أوروبياً أو غيرهما، ويطبق كتالوج الغربة بحذافيره من سكن مشترك أو شقة صغيرة (استديو)، أو غير ذلك،، ويعمل في وظيفة أو وظيفتين، ليوفر أكبر مبلغ، يعود ليتزوج، ويترك زوجته في بلده، ويعود ليكافح، وهكذا إلى ما شاء الله، بغرض توفير مال يحقق به ما يريده من أهداف، مسوياً أمور تربية أولاده ومعيشتهم مع زوجته وأهله، حسب طول مدة غربته أو قصرها، وهل سيأخذ أولاده في مرحلة لاحقة أم لا؟ وهذا يعتمد على أمور كثيرة منها درجة تعليمه، وحسابات الغربية من سكن وتعليم ومعيشة وتكاليف فواتير تمثل دائرة مغلقة لا يخرج منها مرتب المغترب في الفترة الأخيرة بخير أبداً، والمثابر جداً من يخرج بالقليل.. ولا أتكلم هنا عن المستثمرين ورجال الأعمال ولا ذوي الأهواء، ولا المضربين عن الزواج وغيرهم..

فمقياس النجاح يعتمد على مضامين ومفاهيم الغربة والهجرة والتخصص والظروف التي تساعد أو تحبط، وهناك نماذج كثيرة نعتز بها ونضعها أمثلة يحتذى بها فيما قدموه سواء في بلدهم الثاني أو وطنهم الأم مصر..

والنوع الثاني هو الذي يسافر مهاجراً وليس مغترباً لبلد أوروبي أو خليجي أو لاتيني، حسب ما يتيسر له في أرض الله الواسعة ـ ورأيت وعايشت منهم الكثيرين ـ وهذا يبحث عن وظيفة تناسب تخصصه، ويعيش ليبدع ويطور في عمله ويربي أولاده ويعلمهم وفق أحدث الأساليب، محتفظاً بتعاليم دينه وأعراف وتقاليد مجتمعه، معتزاً بشخصيته وكرامته وأصوله،، ويأتي توفير المال في مرتبة ثانية بعد الوفاء بالتزاماته، فإن توفر فلله الحمد، وإن لم يتوفر بكثرة فيكفي أنه يلبي متطلبات حياته التي هي أصلاً على أعلى مستوى، فلديه البيت والسيارة والوظيفة المرموقة، ويتمتع بامتيازات مجتمعية كثيرة...

وأصارحكم بأني كنت من النوع الثاني، حيث سافرت لبلد خليجي بغرض الهجرة وليس الاغتراب ـ ولم يعد هذا المنطق غريباً فقد عرفت وعملت مع وعايشت الكثيرين منهم ـ وعشت في مستوى عالٍ، وعملت في أرقي المؤسسات الصحفية والحكومية والسيادية والخاصة، وُلد أولادي وتربوا في هذا البلد المضياف،، إلى أن حدثت تغيرات إقليمية أثرت سلباً على بني جنسي وغيري من الجنسيات، وقلّت ثم انعدمت فرص العمل التي تناسب خبراتي ومستواي المعيشي، فلم يكن هناك من حل إلا العودة لبلدي وأهلي، وهل هناك حل أفضل من العودة لبلدي؟

ومنذ وطئت قدماي بلدي التي اشتقت إليها كثيراً، كان كل ما يشغلني هو كيف أوظف خبراتي في خدمة بلدي، خاصة أنني وجدت مجالات كثيرة في جهات مرموقة أستطيع تحقيق إنجازات فيها، وبالفعل عرّفت بنفسي لبعضها، باعتبار ذلك واجباً عليّ، وإن صادفت استجابة فأنا على أهبة الاستعداد..

 إلا أنني صُدمت صدمات كثيرة ويومية بسبب الاعتقاد التقليدي السائد منذ عقود والذي تربى عليه أجيال كثيرة، عن المغترب الذي يعود ومعه (زكايب) المال التي لا يستطيع حملها... والكل يضاعف ثمن تكلفة الخدمة والسلعة لمجرد تغير اللهجة، الأهل يتعشمون، والأصدقاء يتساءلون عن المشروع الذي أعد له، والفيلا الفخمة التي سأسكنها وأين مكانها، والاقتراحات كثيرة .... وأضطر حتى لا أحبطهم أو أقلل من توقعاتهم الاجتماعية التي تملأ أفكارهم وتنبع من خلفية ذهنية عتيقة، لمجاراتهم والقول بأني أدرس الأمور، رغم ثقافتهم ودرايتهم بالتغيرات الديمغرافية والاقتصادية والسياسية عربياً وإقليمياً ودولياً، ومرورهم بتجارب كثيرة لجيران سافروا وصادفوا مشاكل وعادوا، أو شباب سافروا بفيزا زيارة وبحثوا كثيراً ولم يجدوا عملاً وعادوا،، أو يقرأون عنها كأخبار وتحقيقات على وكالات أنباء أو محطات تلفزيونية... فلا يمكن شرح أسلوب حياتي ولا طرحه للمناقشة، فقد عشت بالطريقة التي أحب أن أعيش بها... ومن الصعب إقناع الجميع بذلك!!

يا أهل بلدي الكرام.. هل يوجد من يكره المال؟!! ولكن ليس الرزق مالاً فقط، فالصحة رزق، وتربية الأولاد ليكونوا صالحين وبارين رزق، تعليمهم تعليماً حديثاً راقياً هو استثمار طويل الأجل فيهم، وهذا ما أكرره لأهل الثقة القليلين من حولي، إنني عدت بخبرات كثيرة نتيجة عملي في أرقى المؤسسات الصحفية والحكومية والسيادية والخاصة، وعدت بولدين أعتقد أني استثمرت وسأستثمر في تربيتهم ما قدرني الله على ذلك ليكونوا نافعين لأنفسهم، مطلعين على مستجدات عصرهم، ومتطلبات حياتهم، وبالتالي نافعين لبلدهم، وأكون حينها جنيت ثمرة استثماري فيهم، أرجو أن يتم التعامل مع العائد من الخارج بطريقة طبيعية، فلكل عائد قصة وظروف حلوة أو صعبة، يجب أن نغير هذه المعتقدات التي لم يعد لها وجود..

 وغداً سيكون أفضل بإذن الله...