هيرمس
شايل جيل

صاحبة الكستبان الفضي

في طفولتي كانت ترتاد بيتنا من وقت لأخر ومن دون موعد مسبق سيدة غريبة تحمل حقيبة يد كبيرة "هاند باج" ولا أعني أنها كانت غريبة الأطوار، لكن المراد أنها لم تكن بجارة ولا هي من الأهل ولا من معارف الأسرة وعلى هذا كانت تُستقبل استقابل الضيوف.

لطالما التفت لكونها كانت مُلغمة بالحلي الذهبية من سلاسل، أقراط وأساور، كذلك كان شعرها دومًا معقوصًا من الخلف بشكل جاد على أنها لم تكن تخلو من أنوثة رثة .. كما كان يستوقفني أنها ما أن تُفرط في ضحكتها المصطنعة حتى يتحبب ذقنها ويحمر بشكل يُزعجني .. تجلس معنا قليلًا تسألني مفتعلة الإهتمام أمام والدتي
: عاملة ايه في المذاكرة يا حلوة؟

فأخبرها بتفاصيل تجعلها تندم على أنها سألت .. أما لو التفتت أمي لتحضير واجب الضيافة فكانت تتجاهلني كليًا لتعبث في حقيبتها، ثم لا تلبث أن تعاود الإبتسام والإهتمام بمجرد عودة أمي أو خالاتي.. ترتشف العصير ثم تفتح حقيبتها وتخرج منها ملابس مستوردة من مدينة "بور سعيد" التي عُرفت أنذاك كمدينة حرة من الجمارك بعصر الإنفتاح إبان عهد الرئيس السادات.

الحقيقة رغم طفولتي أو لربما بسبب طفولتي لم أكن أرى جميلًا في بضاعتها.. على هذا كانت والدتي تشتري منها بعد فصال ناعم من الطرفين وأحيانًا دونما فصال لإدراكها أن أسعارها لا بد وأن تكون أغلي، كونها تحملت مشاق السفر وتهريب البضاعة من الجمرك .. كانت والدتي وخالتي يبتسمان لها ويودعنها كما يودعان بنات العمومة.

ظلت هذه السيدة الفاضلة تزور وتغيب .. ثم تعود بنفس البسمات الزائفة والبضاعة الكاسدة، على أني أزعم أن عمرًا قُضِىَ لأحسب لها وأفهم أنها كانت تتسلح بالذهب لتُثبت لنا أنها ليست بحاجة لصدقة بل هذا هو العمل الوحيد الذي تُحسن أداؤه.

استمرت "تاجرة الشنطة" هذه تزورنا، ثم ما لبثت أن انقطعت.. ولا اذكر أنه دار بينها وبين أهلي يومًا أي حديث إنساني صادق، فقد كانت صورة مبتدأة من صور مندوبي المبيعات على أنها كانت مندوبة لشركتها الخاصة، مع الأخذ في الإعتبار أن مقر الشركة كان تلكم الحقيبة.

جدير بالذكر أن هذه السيدة لم تُذكر يومًا في عائلتنا .. لقد بُليت تمامًا من وجدان الأسرة كما بُليت بضاعتها، حتى أن ما من أحد يتذكر اسمها .. ولم تأت سيرتها لا من بعيد ولا من قريب .. فقد تعاملت معها ذاكرة الأسرة كعصٍف مأكول.

 

■ ■ ■

مضت سنوات، ثم شرعت تزورنا بالدار بمطلع التسعينات، سيدة مُسِنة تُدعى أم محمود، كانت خياطة بسيطة تتميز بسلوك مفرط في الرقي والبساطة، وكانت لا تزال تمتلك بواقي رشفات من كأس محاسن الخِلقة.

لم تكن أم محمود احترافية أو متمكنة في عملها، فلم تعجبني خياطتها يومًا ولم تكن هي مدعية تميز، بل كانت تعترف أنها ليست خياطة "بريمو" لكنها تزاول العمل لتعول أحفادها بعيد وفاة زوجها وابنها. الطريف أنها كانت حريصة على استخدام كستبان فضي عتيق.

كنت ما أن أعود من الجامعة، ويخبروني أن أم محمود بالدار، فكأن زرًا قد ضغط على قابس السعادة بنفسي .. أدلف للبحث عنها بغرف البيت والقي بنفسي في أحضانها كأن على صدرها وطن يحتويني .. كانت دخلتها حُلوة وبسمتها تومض طمأنينة وسلام أصيلين وكان محياها بصفاء سماء آذار وكان لسانها بعذب دجلة والفرات يسقيان مفردات تروي ظمأ الصغار للتقدير.. كما كانت من هؤلاء الأشخاص الذين إن نزلت البحر معهم وكنت جهولًا بأمواجه، تسبح مطمئنًا لكونها بجانبك منجاة، فتسطيع الإستلقاء على ظهرك وبسط يديك على صفحة الماء وأنت موقن أنها لن تدعك للغرق.

الطريف أن حتى والدي كان يطرَب لزيارتها لنا، ربما كانت تُذكره بوالدته، بتكوينها الجسدي، وبجلستها الواثقة، الساكنة، المستريحة وبضحكتها الخافتة، الهنية.

أما والدتي، فكانت أشد فرحاً لزيارتها لنا، فالسيدة الفاضلة لم تكن تُطْلِق عيناها في أركان البيت. وإن صادف وكانت أمي تطبخ، فكانت أم محمود تجلس معها في المطبخ بدون تكلف، يتسامران وكل يعمل في مهنته.
كذلك لا أذكر أنها فاصلت مع والدتي يومًا، وإن شئنا الدقة لم تكن أم محمود تُثمن أجرتها، ربما كانت تشتري "كُلَف، أزرار، حِليات" وسواها فتذكر ثمنها، أما أجرتها الشخصية فكانت تتركها تقديرية لوالدتي ولا تنظُر- ولا بخائنة أعين- في المبلغ، بل تضعه في جيبها وتشكر مبتسمة، راضية ، لا، لا.. بل فرحة.

■ ■ ■

الطريف أن أم محمود كانت من الحكائين، لا تَمَلّ الحكي، ولا أملّ الإنصات.
وأنّى لي أن أنسى روايتها عن زوجها الراحل.
قالت ما معناه: أحببته وأحبني ونحن أحياء، تراحمنا في الدنيا قبل وصول أحدنا للدار الآخرة .. لم تقتصر محبتنا على التقدير عقِب الرحيل.

لقد أشبعني معاملة حسنة، بل كان يُدللني بدرجة تثير أحقاد من حولنا، على أنه لم يكن يعبأ بأحد مهما أحذره، بل يقول
:"لم أتزوجك زواجاً عُرفيًا لأحبك في السر فيما أدعي التجبر عليك في العلن لأثبت عنترية تًرضي الناس وتًغضب ربي بدعوى إتقاء عين أو إخماد غل الحاقدين."

وصفت لي تفاصيل عنايته ُبها، إذ كان يهتم بزينتها لدرجة أنه تَعلم كيف يُشَذِب حاجبيها ويُطلي أظافرها ويُبرجها أمام المرآة، لكن الأهم انه لم يشرط تقديره لها بأنها صبرت عليه أو تحملته .. تقول:

:الله يرحمه لم أسمعه يتباهي كما عادة الازواج ..أن زوجاتهن حمولات.. فلم يشعرني مطلقًا أن محبته لي مرهونة بقدرتي على تحمله وخدمته .. ومن ثم لم يضطرني لتمثيل دور الاتآن التي كلما حملت أثقالاً كافئها العربجي بقطعة سكر أو حزمة برسيم .. لأنه ببساطة كان فارسًا لا عربجيًا .. ولن أنسى له أنه مهما بل وكلما قست عليه الحياة، كان هو يلين على من حوله.
هي تحكي وأنا أدمع من فرط التأثر.

قلت: بالطبع كنت ترتادين معه السينما؟

قالت: على ذكر السينما، أذكر أنه ذهب يومًا لحجز تذاكر لنا، فأخبروه أن السينما محجوزة بالكامل للملك والملكة، فسأل عن ثمن حجز السينما كلها، فوجده مبلغًا ضخمًا بالنسبة لإمكانياته كترزي.

وفي عيد ميلادي إصطحبني لدار السينما ذاتها وباغتني وقد حجز لي القاعة كاملة كما يحجز الملوك لمليكاتهم بعد أن إدخر الثمن لعام كامل.

صمتت أم محمود بُرهة وألقت برأسها للخلف فسألتها
:أكنت تستعيدين لحظة دخولك السينما كملكة؟

قالت: لا، بل تذكرت أنني حينما جلست بجانب زوجي يومها، لم أهتم بمتابعة "الفيلم"، بل رحت أفكر، ترى لو كنت تزوجت ملكًا معروفًا بمغامراته، فكيف كنت سأواجه نفسي كل يوم وأنا أحمل لقب ملكة، لكن أُعامل كجارية، وما جدوى أن أكون ملكة إسمًا، أمام الناس، بينما أنا في الحقيقة سيدة في منتهى الغلب والهوان، أعاني يوميًا بل أنيًا من معاملة قاسية من زوجها وأتجرع التهميش والازدراء والتحقير، في حين أن الله قد وهبني زوجًا خالي من العقد النفسية، بل جعلني ملكة أمام نفسي في واقعي وأمام محيطي، حتى لو لم أحز اللقب، وحتى لو لم أمتلك القصر وحتى و لو لم أتقلد التاج.

لقد عشت ملكة حقيقية على عرش قلب زوجي، حتى أن مجرد ذكرياتي معه كانت كفيلة بتهوين مصائب الدنيا .. صحيح لم أتقلد تاجًا ذهبياً، لكنه ترك لي كستبانه الفضي وهو بمثابة درع يصد عني خطوب الحياة، بل إن ذكراه ممحاة للألم ومدد للقابل من النعم.

لما غابت عن زيارتنا أم محمود .. سألنا عنها وعلمنا أنه قد خطفها منا الرحيل .. لكن هيهات أن يتخطف الموت من ذاكرتنا من علمتنا أن نمارس الحب أحياء.. لا بعد فوات الحياة.

لا أعلم هل أحببت أم محمود أم فارسها، لكن المؤكد أن صاحبة الكستبان الفضي قد خَطّت بتوقيع الخلد على خارطة ذاكرتنا.