هيرمس
شايل جيل

نصف قرن في بلاط الجمهورية 2

لم نمر سوى بعضة شهور على تعيين بالجمهورية عام 67 بعد ان قضيت سنة ونصفا اتدرب في اقسامها ، حتى وقعت هزيمة يونيو .. التي اصابت المصريين .. كل المصريين .. لا أظن أن الجيل الذي عاش تلك الايام، برأ منها حتى يومنا هذا.

ولأول مرة منذ يوليو 1952 عندما قامت الثورة تهتز الثقة في قيادتها التي تترك اي احتمالات للهزيمة، وتولى الاعلام "التعبوي" الترويج لاسطورة القاء اسرائيل في البحر ، ومازال صوت المذيع صاحب الصوت الجهوري احمد سعيد يرن في أذني وهو يتحدث عن انتصارات وهمية.. واننا دمرنا طائرات العدو بينما كانت طائراتنا تدمر على الارض.

وعندما أذيع ان احدى الطائرات الاسرائيلية اسقطت في الصحراء بالقرب من المطار، سارعت مع زميلى لطفي ناصف – أمد الله في عمره – ومعنا زميل مصور الى الموقع المحدد.. وصدمنا بأن ما وجدناه كان قطعة من طائرة مصرية.

عدنا إلى "الجمهورية" ووجدنا الزملاء ينتظرون عودتنا وذكرنا أمامهم الحقيقة التي كان وقع ذكرها عليهم قاسيا، استقبلنا زميلنا الطيب صلاح ابو سالم بعاصفة من التوبيخ.

هل اصبحتما خبراء في الطيران.. لتتعرفا على "جنسية" الطائرة؟.

ثم اتجه بحديثه نحوي.. وكانت بيننا دائما "مشاغبات" لا تتجاوز الخلاف في الراي حول غياب الرأي الآخر في الاعلام.. وكان صلاح يرى ألا أهمية لهذه المسألة حتى لا تستغل من جانب اعداء الثورة.

اعتقد صلاح أن أي مصري مهما اختلف مع بعض سياسات النظام، ان يروج للهزيمة ، وكاد ان يتحول النقاش الى اشتباك بالايدي من جانبه، وكان هذا الانفعال الصادق .. مقدرا.

كانت أياما صعبة حقا.. لم نغارد مبنى الجريدة. طوال ساعات الليل أو النهار .. نتابع ما تنقله اجهزة "التيكرز" عن وكالات الانباء حول الانتصالات التي حققتها اسرائيل وان الجيش المصري ، لم يختبر بينما كان احمد سعيد يتحدث عن هزيمة العدو وانتصاراتنا.

وانتظر المصريون على أحر من الجمر، حديث زعيمهم المحبوب لعله يرفع من معنوياتهم كالعادة، ويكشف لهم عن هزيمة العدو.

وتحدث الزعيم في العاشر من يونيو، ليقر بالهزيمة التي اطلق عليها لقب "النكسة" بعد ذلك ويعلن امام الشعب أنه يتحمل المسئولية كاملة، ويتنحى عن الحكم، ويعمل في اي موقع يختاره الشعب.

اندفعنا من "الجمهورية" لنشارك الملايين في مظاهراتهم العفوية، ونطالبه بالتراجع عن قرار التنحي، وألا يتركنا نواجه مصائرنا وحدنا.

ولن أتوقف طويلا أمام تحرك الشعب المصري لمطالبة الزعيم بالتراجع رغم هزيمته في الحرب، وطالما اختلف في تفسيره سواء انصار عبد الناصر أو خصومه.

أدرك الزعيم ان ما كان يجري قبل 5 يونيو من عشوائية وصراع بين أقطاب النظام لا يمكن أن يستمر، وأن عليه أن يغير من السياسات السابقة، حتى يستعيد ثقة المواطنين الذين لم يعد في مقدورهم أن يمنحوا ثقتهم "على بياض" لأحد، حتى لو كان الزعيم نفسه، وللاسف لم تصل تلك القناعة إلى أركان نظامه الذين اعتادوا تغييب الجماهير، وأنها يجب أن تعلم وتشارك.

لم تكن الجمهورية في تلك الأيام بعيدة عن نبض الشارع، حاول كتابها استيعاب صدمة الجماهيرن والدعوة غلى الصمود، والاستشهاد بتاريخ شعوب واجهت هزائم في معارك عديدة، ولكنها لم تخسر الحرب، واستطاعت أن تحقق النصر عندما لم تفقد الإرادة على تحقيقه.

وتابع المصريون بشغف محاكمتين لأركان النظام، احداهما عرفت بمؤامرة الانقلاب على الحكم والثانية للمسئولين عن نكسة الطيران.

وكشفت تلك المحاكمات عن مدى الفساد الذي ان لابد أن يقود البلاد الى كارثة يونيو، وعن نتائج اختيار أهل الثقة وتفضيلهم عن أهل الخبرة، وتصدرهم للمشهد السياسي.

امتصت تلك المحاكمات العلنية بعض الغضب المكبوت في صدور الناس، عندما ادركوا الاسباب الحقيقية التي قادت الى النكسة، من خلال اعترافات الجناه.

وانتظر المصريون الأحكام الرادعة، ضد الذين اجرموا في حق الشعب، واعترفوا بجرائمهم أمام العالم اجمع من خلال جلسات المحاكمات المذاعة.

وجاءت الأحكام الصادمة للمسئولين عن نكسة الطيران، بالسجن 15 عاما عليى صدقي محمود قائد القوات الجوية، وعشر سنوات على اسماعيل لبيب رئيس الأركان وتبرئة اللواءين عبد الحميد عبد السلام وعبد السلام فايد.

يا الله .. هؤلاء المسئولين عن الكارثة، الذين تركوا طائراتنا في الهواء الطلق.. صيدا ثمينا لطائرات العدو  التي دمرتها في طلعة واحدة، تصدر ضدهم تلك الأحكام التي لا تتوافقب ابدا مع حجم الجرم الذي ارتكبوه، ومنهم من يحصل على البراءة.

وفوجئ أركان النظام الذين لم يعتادوا على خروج المظاهرات الشعبية بالغاضبة، بأن عمال مصانع حلوان يستعدون لخروج مظاهرات حاشدة، تندد بالأحكام وتطالب بأقسى العقوبة، وفي نفس الوقت بدأ طلاب جامعة عين شمس يستعدون للمشاركة في المظاهرات.

وفوجئت برئيس التحرير فتحي غانم يستدعيني، ولم أخف اندهاشي فمن كان يدير التحرير هو إبراهيم نوار الذي اعتدنا على التعامل معه.

واعترف انه كان لدي موقف مسبق من الروائي الأشهر، والمثقف الشامل،والناقد المميز فتحي غانم، الذي قرأت له رواياته وتابعت مقاالات في النقد الأدبي والسينما والمسرح.

أما فتحي غانم رئيس التحرير، فلم يكن ابدا موضع اعجابي، وأظن أنه أول رئيس تحرير لصحيفة يومية في العالم يعلن بفخر، أنه لا يهتم بالخبر الصحفي، ولا يسعى للفوز بالانفراد.. وأن اهتماماته في الصحيفة لا تتعدى الجانب الثقافي، وأنه عندما اراد أن يرفع توزيع الجريدة، نجح في كسب مثقف بارز هو الاستاذ بدر الديب، بينما كانت "الجمهورية" تنفرد بعشرات الكتاب المعروفين، الذي كان تأثيرهم في زيادة التوزيع محدوا، في ظل منافسة قوية مع الصحافة الخبرية، وصحافة الخدمات.

سألني رئيس التحرير عما يجري في الجامعات والنفايات العمالية بعد صدور الأحكام، وكنت مسئولا عن تغطية الانشطة الطلابية، والنقابات العمالية، داخل قسم التحقيقات الصحفية.

وقدمت له الموقف وفق ما حصلت عليه من مصادري من معلومات، بأن المظاهرات ستخرج إلى الشارع وقد فشلت كل المحاولات لإقناع الطلاب بعدم الخروج.. والتظاهر داخل الحرم الجامعي، كما فشلت مع عمال حلوان.

وسألني عن توقعاتي بان المظاهرات ستتيح الفرصة للمندسين والمخربين.

وقلت : إنه ليس لدي دليل على ذلك، وان كنت ارى ان السماح للتظاهر ضروري لامتصال الغضب الشعبي.

وكان رد الرجل انه يسالني لاستيضاح الموقفن وليس اعتراضا على التظاهر، وان "الجمهورية" يجب أن تلتزم بالحقائق كاملة، حتى لا تخسر القارئ ، وان تتخذ موقفا محايدا ما بين المسئولين عن الأمن، والمتظاهرين ، وأبلغني أن وزير الداخلية شعراوي جمعة يناشد المتظاهرين بعد الخروج إلى الشارع.

وجاملني بالقول ان حماس الاستاذ نوار لك لا يدخل ضمن المجاملات ، وأنه رشحك لمتابعة الاحداث القادمة، كما اختار السيد عبد الرؤوف وعلاء دواره لتغطية من مواقع مختلفة.

وقال لي وأنا استعد للمغادرة، كل ما يتعلق بتلك الاحداث يعرض عليّ شخصيا، وتستطيع ان تقابلني في اي وقت.

شعرت من هذا اللقاء أنني اقتربت اكثر من فتحي غانم، وكنت أظنه متعاليا.. ومتعجرفا، وازددت اقترابا منه مع متابعة الاحداث، لاحظت مدى حرصه على أن يتحقق من مصداقية المعلومة الواردة في التحقيق، وانها تعبر عن رأي المواطنين الغاضبين، واراء المسئولين في الوقت نفسه.

وعندما أبلغته بالشائعة التي ترددت بين طلاب جامعة عين شمس اثناء احتفالهم بذكرى يوم الطالب، بأنه تم القبض على عشرات الطلاب، وقتل 40 عاملا من بين المتظاهرين في حلوان.

وكان احد الطلاب قد ذكر في الاحتفال الذي يقام في الـ 21 من شهر فبراير ، تخليدا لذكرى الطلاب المصريين والهندود الذي قتلوا برصاص الانجليز في ذلك اليوم من عام 1946.

وهو الاحتفال الذي تحول الى مظاهرة حاشدة ضد أحكام الطيران ، التي صدرت في اليوم السابق.

وكان رده انه لا يمكن اغفال تلك الواقعة، خاصة بعد أن صدر بيان من وزارة الداخلين بأنه لا صحة لوفاة أي مواطن، وأنه تم الافراج عن الطلاب المعتقلين.

وكان رأيه ألا نغفل تلك المزاعم ونضعها في سياقها، وان نقدم ردل الداخلية عليها، وأن تجاهلها ثم ذكر بيان الداخلية لن يقنع القارئ.

وشجعني موقف رئيس التحرير، على الانحياز للحقيقة والحرص الكامل على الحياد بين الأطراف.

كانت النتائج المباشرة للمظاهرات.. إعلان الفريق محمد فوزي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة، رفضه التصديق على الأحكام الصادرة عن نكسة الطيران، وأن المحاكمة ستتم في دائرة أخرى.

ولم يكن تأثير تلك المظاهرات سهلا على الرئيس عبد الناصر، بعد أن تعرضت له شخصيا، وحملته مسئولية الفوضى في قطاعات الدولة.

لذلك توجه الزعيم إلى حلوان، وألقى خطابا لامتصاص غضب العمال، بل غضب المصريين جميعا.

وتميزت "الجمهورية" في تغطيتها الصحفية للأحداث، بقدر كبير من المهنية، وهو ما كان يحرص عليه رئيس التحرير فتحي غانمي، الذي طالما تسرعت في الحكم عليه.

واستراح ضميري عندما كتب مقالا عقب تركه الجمهورية، جاء فيه كنت افضل أن أكون أديبا، وأن أتفرغ تمام لكتابة القصة والرواية.

وفي مقال آخر قال: "اعترف بأنني في حياتي لم أهتم بالحصول على خبر صحفي هام أنشره، أو مانشيت انفرد به.

أمتلك الرجل شجاعة الكبار.. والقدرة على نقد الذات.