هيرمس
شايل جيل

إلى الأمام

وثيقة المدينة المنورة .. وفقه بناء الدولة !

تتزامن احتفالات المسلمين بعيد الهجرة للعام 1441 مع استعداد المجلس الاعلى للشئون الاسلامية بعقد مؤتمره الثلاثين الذي يبدأ اعماله الاحد القادم تحت راية الرئيس السيسي بمشاركة اكثر من 300 عالم وفقيه من ستين دولة..واختار له موضوعا في غاية الاهمية سواء من حيث الفكرة والتوقيت والظرف السياسي والتداعيات التى تشهدها الساحة المعاصرة من جدل ولغط لا محل له من الاعراب في كثير من الاحيان حول اهمية الدولة الوطنية وضرورة الحفاظ عليها بكل السبل والوسائل العقلية والنقلية ..العنوان لافت "فقه بناء الدول رؤية فقهية عصرية"..

الحقيقة التاريخية التى لا ينكرها اي قارئ او متابع للتاريخ الاسلامي والسيرة النبوية هي ان الرسول صلى الله عليه وسلم هو اول من وضع اللبنات الاولى للدولة الوطنية المدنية بكل معاني ودلالات الكلمات مع اشراقة البعثة المحمدية ومع الدقائق الاولى لبناء الدولة في المدينة المنورة..فقد حرص الرسول على ان يضع الدستور السياسي الحاكم والمنظم للدولة بطريقة واضحة وصريحة لا تقبل اي لبس او تأويل وبمواد غاية في الرقي الانساني والحضارى  بمقاييس اي زمن وغير قابلة للجدل تؤسس وترسخ لمجتمع مستقر آمن متماسك ومتكاتف..الحقوق فيه واضحة والواجبات فيه ناصعة وبتوافق تام وبصورة مذهلة لم تدركها وتبلغ غاياتها حتى المجتمعات التى تدعي لنفسها تفوقا وعلوا في المدنية والحضارة..

دستور كامل واضح متكامل الاركان وبنود ومواد تفصيلية اذهلت كل الدارسين المنصفين وغيرهم وحتى المستشرقين على مختلف مشاربهم.

ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انفرد من بين جميع الأنبياء بأن عقد أكبر وأعظم وثيقة سياسية لم يسبقه إليها نبي ولم تتجاوزها في روحها ودلالتها أي وثيقـة تاريخـية معروفة الـيوم.

انها وثيقة المدينة المنورة التى اشتملت على بضع وخمسين بندا لتنظيم امور المجتمع بكل اطيافه وفئاته الاجتماعية والدينية والوثنية.وتعتبر أول دستور مدني في التاريخ وقد أطنب فيه المؤرخون والمستشرقون على مدار التاريخ الإسلامي واعتبره الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية ومَعلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني.

يقول المستشرق الروماني جيورجيو:«حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بندا كلها من رأي رسول الله.خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى ولاسيما اليهود وعبدة الأوثان.وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء.وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة أى عام 623م. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده.»

( لابد من الاشارة الى ان فقهاء القانون الدستوري المعاصرين إذا تحدثوا عن تاريخ بدء الدساتير المكتوبة عدوا في أولها دستور الولايات المتحدة الأمريكية الصادر سنة 1776م والمعروف بدستور فيلادلفيا والدستور الفرنسي الذي ظهر في الفترة الثورية سنة 1789-1791م وهو أول دستور فرنسي مكتوب وينسى هؤلاء واولئك ان اول دستور حقيقي مكتوب هو وثيقة المدينة مع اشراقة النور المحمدي).

وثيقة المدينة هي وثيقة السلام وحقوق الانسان والعلاقات الدولية في مجتمع متعدد الثقافات والاعراف والاديان ولذلك فهي تحوي الكثير والكثير من معالم الحضارة الإسلامية وتبين كيف سبق النظامُ الإسلامي جميع الأنظمة في إعلاء قيم التسامح والتكافل والحرية ونصرة المظلوم وغيرها من القيم الحضارية التي يتغنى بها العالم في الوقت الراهن دون تفعيل جاد أو تطبيق فاعل..

في اعتقادي ان رسوخ فكرة الدولة الوطنية في الفكر الاسلامي من اول لحظة لقيام الدولة هو السبب الرئيسي وراء استهداف فكرة الدولة وضربها من قبل الجماعات المتطرفة والدعم اللامحدود التى تجده من القوى المعادية للدين والوطن والتركيز على زعزعة اصول واركان الدولة بافكار هلامية وفتاوى ما انزل الله بها من سلطان..فتاوى لا يمكن ان تصمد امام الحقائق الناصعة المرتكزة على اسس قوية من القران والسنة النبوية المشرفة..

اتصور ان القراءة المخلصة الواعية والمستوعبة لوقائع التاريخ والسيرة النبوية والمقاصد الشرعية الحقيقية للمبادئ الاسلامية وتقديمها بامانة واخلاص كفيل باغلاق ابواب كثيرة امام الارهابيين والمتطرفين والمتنطعين ايضا ومن شايعهم في الداخل والخارج.وايضا كان سيرحمنا والاجيال الحالية واللاحقة من شرور معارك مصطنعة وفارغة وكان سيوفر الكثير من الجهود الضخمة التى تبذل على طريق المواجهة للافكار اللعينة.

كما ان فتاوى الارهاب والتطرف لايمكن ان تصمد امام النظريات الحديثة وقواعد القانون الدولي في بناء الدول والتى تبدو امامها افكار المتطرفين نوعا من الهلاوس او ضربا من المستحيلات خاصة ما يتعلق بقوة الدول وتماسكها ووحدة ترابها الوطنى وفقا للقواعد المتعارف عليها في النظم السياسية. بكل صراحة انها افكار لم يكن لعاقل ان يطرحها او يستمع اليها لولا انها تجد صدى وهوى عند بعض قوى الشر الساعية الى زعزعةالاستقرار صراحة او من وراء حجاب لضرب الدول المستقرة او صاحبة الادوار التاريخية والمركزية في المناطق الحساسة من العالم.

 ولا يخفى على احد ما يبذل من جهود في الفترة الاخيرة من جانب المؤسسات الدينية الازهر والاوقاف ودار الافتاء في مواجهة اعداء الدولة الوطنية ومحاولات المساس بها واضعافها وانهاكها وتفتيتها ولكن هيهات.

يكفى الاشارة الى ان المؤشر العالمي للفتوى التابع لدار الافتاء كشف في تحليله للخطاب الإفتائي للتنظيمات المتطرفة أن "الوطن" -أو "الوطنية" ليس إلا حفنة تراب وأن التنظيمات ترفض فكرة الوطن وتنسفها لأنها ضد إقامة دولة الخلافة فالأوطان ما هي إلا حدود جغرافية صنعها الاستعمار وأنها مساكن ذمَّها الله تعالى.

وأن فتاويهم تدعو إلى تخريب البلاد بنسبة 100%  وتشدِّد على انعدام وإزالة الهوية الوطنية لأتباعها مؤثرةً مصلحة الأفراد على الأوطان والمصلحة العامة في نحو (300) فتوى تم رصدها للتنظيمات المتطرفة.

وبالنسبة لفتاوى الإخوان اوضح المؤشر تاكيدها على أن كل تصور للوطن بعيدًا عن فكر الجماعة تصور جاهلي لا يعرفه الإسلام وأن (95%) منها ترى أن الوطن هو الانتماء للجماعة وأن أي تصور آخر غير ذلك ليس من الإسلام.

وعند تفكيك الخطاب الإفتائي لتنظيم القاعدة الخاص بالوطن خرج المؤشر بخلاصة أن (80%) ترى الوطنية فعل الكفار.

الدكتور مختار جمعة وزير الاوقاف لديه مشروع كبير في اطار الحرب على الافكار للجماعات المتطرفة تحتل فيه الدولة الوطنية مرتبة متقدمة وله اجتهاد مهم في هذا الجانب يضم الحفاظ على الدولة الوطنية الى جانب المقاصد الخمسة للشريعة الاسلامية الواجب الحفاظ عليها وتسمى بالضروريات الخمس:حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ المال وحفظ العرض وحفظ العقل.وهي القضايا التى يرى جمهور الفقهاء أن أحكام الشريعة الإسلامية تدور حولها.الى جانب العديد من الدرسات المهمة حول اباطيل وضلالات الجماعة الارهابية وتفنيد افكارها واغاليطها وعلاقاتها المسمومة بالشباب وكيفية السيطرة عليهم وفقه الدولة وفقه الجماعة وغيرها.

في المؤتمر الثلاثين للمجلس الاعلى للشئون الاسلامية يرأسه وزير الاقاف هناك 40 بحثا علميا تركزعلى بناء الدولة الوطنية والحفاظ عليها والعمل على رقيها ونهضتها والانتماء الوطني وفقه المواطنة والعيش المشترك .

والله المستعان..

[email protected]