هيرمس
شايل جيل

من آن لآخر

الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬للأزمة

 "وعسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم".. و"عسي أن تكرهوا شيئاً ويجعل اللَّه فيه خيراً كثيراً" (صدق اللَّه العظيم).. لا يدري الإنسان أين الخير، وربما نري في ظاهر الأزمة شراً مستطيراً، ويقدر اللَّه لنا الخير، فلو اطلعنا علي الغيب لاخترنا الواقع.. ورُبَّ ضارة نافعة.. فمن رحم الأزمة تولد الرحمة، ويكمن الحل والمخرج.. وتكشف الأزمات ما بين أيدينا من إيجابيات ونقاط مضيئة.

الشدائد والمحن في أحيان كثيرة تولد لنا طاقة علي الإبداع والاجتهاد للوصول إلي حلول.. وخلق أدوات ووسائل جديدة تساعدنا علي مواصلة الحياة وإضافة أشياء جديدة تنفعنا في حياتنا.. لولا وجود المحنة والأزمة.. ما كنا نجتهد للوصول إليها ولا نعرف قيمة وقدر ما بين أيدينا.. فالحاجة أم الاختراع.. هكذا علمتنا الحياة.. ومنحتنا عجلة التاريخ.. والزمان الدروس والعبر. في أمواج الأزمات العاتية.. وبراكين المحن والشدائد تصعد أمم.. وتتواري أخري، فلكل زمان دولة ورجال.. هكذا هي نواميس الخلق والملكوت..

فالمفكرون والفلاسفة والساسة والعلماء توقفوا كثيراً أمام الأزمة والمحنة التي تواجه العالم والبشرية.. وأمام ما أحدثته كارثة انتشار فيروس "كورونا" وتداعي الأنظمة الصحية في الدول الكبري من قادة العالم. وعجزها عن مواجهة الانتشار المروع للفيروس بين شعوبها وفي كثير من الأحيان استسلمت لقدر اللَّه وتحاول قدر المستطاع والمتاح مواجهة الآثار الكارثية للأزمة. ربما تصعد دول إلي القمة.. وتتراجع دول أخري، فنحن بصدد ولادة نظام عالمي جديد يتشكل بعد "كورونا".. أي نحن علي طريق عالم ما بعد "كورونا" سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. وأخلاقياً.. لأن الدرس كان ومازال قاسياً للغاية مزلزلاً ومروعاً.. ومفرزاً لأمور وملامح جديدة لعالم ما بعد "كورونا".

تساؤلات كثيرة تدور في ذهن هذا العالم حول مصير الكبار.. هل ستنال منهم كورونا.. وهل ستأخذ الأزمة بيد قوي جديدة تصعد إلي الصدارة.. وهل سيشهد الوضع الاقتصادي ملامح جديدة.. وهل تتغير أخلاقيات وممارسات البشر بعد تداعيات هذه الجائحة التي تجتاح العالم بشراسة وضراوة.. وما هو مستقبل الإعلام في ظل هذه الظروف والمعطيات الجديدة.. أهمية دور الذكاء الاصطناعي في عالم ما بعد "كورونا".

لقد استسلم العالم أجمع بكل ما أوتي من قوة وتقدم وتكنولوجيا وطب أمام مخلوق لا تراه أو ترصده العين المجردة.. حيث اختبأ الكبار أمام قدرة اللَّه عز وجل.. فهل يعود البشر إلي خالقهم.. إلي رشدهم.. يكفون عن ممارسة الأذي والدمار والخراب والانتهازية والقتل وسفك الدماء والمؤامرات وتشريد الشعوب ودعم الإرهاب ونهب وسرقة مقدرات الشعوب.. هل نشهد في الفترة القادمة عالماً أكثر إنسانية وتعاوناً وتكاملاً وشراكة أم تظل الأطماع والمخططات وامتصاص دماء الشعوب الفقيرة سائدة.

كشفت أزمة انتشار فيروس "كورونا" العديد من نقاط الضعف الإنساني.. وعجز البشر أمام قدرة اللَّه عز وجل، لكن للأزمة وجهاً آخر.. بالتدبر والتركز تجد أموراً إيجابية ومضيئة.. ودروساً وعبراً وعظات وكواشف تظهر الوجه الحسن بعد التوقف أمام آثار وتداعيات كورونا.. منها أبعاد سياسية وإنسانية واقتصادية واجتماعية نتأملها علي الصعيد المحلي الخاص بمصر من خلال مجموعة من الرسائل المهمة والكاشفة لما نحن فيه الآن أو ما بعد "كورونا".

أولاً: رغم حالة الهلع والفزع والمعاناة التي يعيشها البشر جراء فيروس "كورونا".. إلا أن الأزمة جسدت قوة وصلابة الدولة المصرية.. وربما قطاع كبير من هذا الشعب لولا تداعيات هذه الأزمة ما أدرك الكثيرون قوة الدولة المصرية وقدرتها علي مجابهة التحديات واتخاذ الإجراءات الاحترازية العلمية.

ثانياً: لولا أزمة "كورونا".. ما أدرك المصريون أنهم بصدد دولة جديدة المواطن فيها هو الأهم والأعز.. فقد ضحَّت الدولة وبذلت العطاء وتحملت الخسائر القادمة من أجل الحفاظ وحماية مواطنيها.. ووفرت لهم الأمان الشامل في كافة الاتجاهات ومناحي الحياة، وقدمت الدعم والمساندة دون أن يستشعر المواطن المصري وجود أي نقص في أي شيء أو تقصير في حقه، وأنه ليس أقل من شعوب الدول المتقدمة.

ثالثاً: هناك دول كبري فعلت ما نفذته مصر من إجراءات خاصة علي الصعيد الاقتصادي ولكن متأخراً، وبعد مصر بأسابيع، ولعل ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية التي أعلنت منذ أيام قليلة أنها لا تبالي بالاقتصاد والخسائر بقدر ما تتوقف أمام مسئوليتها في حماية شعبها.. وأيضاً تلحظ الفارق الكبير بين قرارات مصر الاستباقية ووضوح رؤيتها وانحيازها لشعبها وقرارات تركيا الأردوغانية المتأخرة جداً والمقلدة لمصر السيسي.

رابعاً: حالة بُعْد النظر واستشراف المستقبل التي اتسم بها أداء الدولة المصرية في الـ6 سنوات الأخيرة، واكتشف البعض أن هناك قرارات ومشروعات وأفكاراً عبقرية، اتخذت منذ سنوات وأثبتت جدواها خلال هذه الفترة مثل صندوق "تحيا مصر" الذي يرصد المليارات لدعم المصريين المتضررين من تداعيات "كورونا".. هل يتذكر المصريون الاقتراح الرئاسي بالتبرع بـ"الفكة" من أجل مصر وهو الأمر الذي كان محل هجوم المنصات المعادية.. وأثبت القرار بُعْد نظر كبيراً خاصة أن العالم الآن يرفع شعار التكافل والتضامن مع المتضررين والفئات الفقيرة والأكثر احتياجاً أو تخصيص ميزانيات لتوفير أسلحة الحرب ضد فيروس كورونا، والوقاية الشاملة من تداعياته وتأثراته.

خامساً: قدمت لنا تداعيات فيروس كورونا وآثاره الكارثية وحالة العزلة الدولية جراء الإجراءات الاحترازية للوقايدية والحد من انتشار الفيروس دروساً مهمة.. أبرزها ضرورة الاعتماد علي الذات وتحقيق الاكتفاء الذاتي من احتياجاتنا.. فهناك دول كبري في اتحادات دولية عريقة تمثل وحدة هذه القارة، اتسمت مواقفها بالأنانية ولم تقدم المساعدة لبعضها البعض.. وزاد الهجوم المتبادل والتراشق بالاتهامات تقصيراً وخُذلاناً، وأنانية.. ولا داعي لذكر نماذج.. فالمعلومات متوافرة ومتواترة، والوضع في الدول المتقدمة يشهد بذلك.

سادساً: جسدت "الأزمة" الخاصة بفيروس كورونا عمق "الرؤية المصرية".. وأهمية النجاح والانحياز والمعجزة الاقتصادية خلال الـ6 سنوات الماضية ببناء الدولة المصرية وتوفير احتياجات الشعب من خلال مشروعات البنية الأساسية والكهرباء والاكتشافات في مجال البترول والغاز ومشروعات الأمن الغذائي، وكم المستشفيات التي تم إنشاؤها وتطويرها ورفع كفاءتها والحرص علي امتلاك القدرة المالية بعد تبني مشروع الإصلاح الاقتصادي الشامل والمالي لتوفير احتياجات المصريين وتوفير الاحتياطي الاستراتيجي من السلع ليكفي شهوراً طويلة بدلاً من أن نعيش ثقافة "اليوم بيومه".. وأصبح لدينا احتياطي نقدي أجنبي تجاوز الـ 45 مليار دولار.. وأيضاً تراجع العجز خلال العام المالي الماضي.. ووجود موازنة كبيرة تلبي احتياجات بناء الإنسان المصري صحياً وتعليمياً وأيضاً رفع مستوي معيشته وتوفير الحياة الكريمة له من خلال زيادات الأجور والمعاشات وزيادة حد الإعفاء الضريبي وغيرها من النجاحات.

سابعاً: أثبتت أزمة "كورونا" أهمية أن نعمل سوياً وجيداً علي توفير احتياجاتنا بأيدينا.. وضرورة الارتقاء بالصناعة والمنتج المحلي وهي الاستراتيجية التي يتبناها الرئيس عبدالفتاح السيسي خاصة أن أزمة "كورونا" أكدت أن الحاجة أم الاختراع.. فأجهزة التنفس هي أهم ما يبحث عنه العالم الآن وبالتالي فالتصنيع المحلي للأجهزة والمعدات أمر بات حيوياً وضرورياً وهو ما حققت فيه مصر شوطاً جيداً يبشر بمستقبل كبير، علينا مواصلة استراتيجية دولة 30 يونيو في تحقيق الاكتفاء الشامل من كل احتياجاتنا.

ثامناً: أزمة "كورونا" وتداعياتها ودروسها لها أبعاد اجتماعية تتمثل في عودة روح الأسرة.. وترابطها. وعودتها إلي النموذج القديم خاصة اكتشاف الأبناء.. والعودة إلي اللُّحْمَة الأسرية والترابط العائلي الذي بدت ملامحه في قضاء الوقت الكافي للحوار والنقاش والتعرف علي الملامح والسمات الشخصية لأفرادها والجلوس معاً علي موائد الطعام.. فقد شهدت السنوات الماضية تباعداً بين أفراد الأسرة الواحدة بعد أن طغت المادة وباعدت التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة.. والترفيه شديدة التقدم بين الأسرة.

تاسعاً: أزمة فيروس "كورونا" أكدت الحاجة إلي وقفة مع النفس.. إلي استعادة العلاقة القوية مع اللَّه.. بمعني آخر العودة إلي اللَّه سبحانه وتعالي، وأن الدنيا لا تستحق أن نتجاوز تعاليم الدين والأخلاق.. فالموت أقرب ما يكون إلي الإنسان.. وأنه لا سبيل إلي النجاة إلا بالتقرب والعودة إلي اللَّه والابتعاد عن الممارسات التي تشوبها الأنانية وعدم الإنسانية والانحراف أو تبني الثوابت والمبادئ والقيم التي تبعدنا عن  الحرام والحرمات، والعودة إلي اللَّه تعني التسامح والمحبة والوسطية والالتزام بتعاليم الدين التي تسمو بالروح وتحافظ علي الإنسان.

عاشراً: أظهرت وفضحت أزمة فيروس "كورونا" المتاجرين بالدين وأنهم أعداء الإنسانية ولا دين ولا أخلاق عندهم.. فجماعة الإخوان الإرهابية تتمسك بالانحطاط الأخلاقي والإنساني في ظل دعواتها إلي نشر العدوي والانتقام من الشعب المصري الذي كشف بوعيه مدي الخيانة التي تمارسها الجماعة.. وأيضاً إصرارها علي نهج الأكاذيب والتشكيك واليقين بأن الإخوان هم العدو اللدود لمصر وشعبها.

الحادي عشر: كشفت أزمة "كورونا" أيضاً أهمية الأخذ بأسباب العلم والتكنولوجيا في حياتنا وأعمالنا.. وأن تكون الدولة حريصة علي تنفيذ التطبيقات التي باتت حيوية في مجال التقدم التكنولوجي.. فيمكننا أن نقوم بأعمالنا واجتماعاتنا من خلال وسائل التكنولوجيا الحديثة في ظل ظروف التباعد التي فرضتها أزمة الفروس وعدم المخالطة والاختلاط منعاً لانتشار الوباء.. أيضاً إننا في حاجة ماسة إلي تبني الذكاء الاصطناعي الذي سيكون عنواناً رئيسياً لعالم ما بعد "كورونا".

الثاني عشر: إن من أهم دروس فيروس "كورونا" أنه لا بد من البحث عن حالة من الربط والتماذج ببن مفاهيم وأخلاقيات ومبادئ الأديان، أو حتي الفضائل الإنسانية.. والتقدم التكنولوجي والعلمي الذي يشهده العالم. وأن قضية الأخلاق والإنسانية تشكل حاجة ماسة للبشر حتي لا يكون هناك فراغ روحاني يفضي إلي ممارسات شاذة ومنحلة وإباحية مقيتة لما يخالف طبيعة البشر وجوهر الأديان والأخلاق.

الثالث عشر: تداعيات فيروس "كورونا" أدت إلي حالة انكشاف عالمي أظهرت مظاهر العجز والثغرات الموجودة وأيضاً أن الإنسان يعيش وهم القوة الزائفة التي جعلته ينسي أسباب ما خلق له.. وضوابط الكون وأخلاقياته.. وأيضاً جسدت حالة الفراغ الروحي والأخلاقي سواء علي مستوي الشعوب أو الدول.. وهو الأمر الذي قد يؤدي إلي التعرف الحقيقي علي مقاصد الأديان.. فالعبادات ليست مجرد حركات ولكن جوهر ومضمون.. وأظهرت الأزمة وما ترتب عليها من خلو دور العبادة أن الأديان في جوهرها تهدف إلي الحفاظ علي حياة الإنسان، وأن تنفيذ تعاليم الدين لا تعني الهلاك والمخاطرة بالنفس.. وأن هناك خصوصية في العلاقة تربط الإنسان بخالقه.. فليس الدعاء محله "البلكونات وشرفات المنازل" بقدر ما يزداد إجلالاً وتأثيراً كلما يتسم بثقة الإنسان أن رب العالمين مطلع علي ما في القلوب والصدور.. فأقرب ما يكون العبد إلي ربه وهو ساجد.. وإني أقرب إليكم من "حبل الوريد".. وقلت ادعوني أستجب لكم.. "وادعوا ربكم تضرعاً وخُفبة".. "صدق اللَّه العظيم".. فكل ما ذكرت يؤكد فساد عقيدة الجماعات الإرهابية، التي تتاجر بالدين من أجل تحقيق مكاسب سياسية وشبطانية، الدين منها بريء.

الرابع عشر: ربما تكون أزمة "كورونا" منحتنا العدبد من الدروس والعبر سواء فيما يخص احتياجاتنا في المستقبل.. وأن نمتلك القوة والقدرة والاكتفاء والاعتماد علي النفس وتوفير احتياجاتنا بأيدينا.. وأهمية الاستعداد الجيد بكل الظروف الطارئة والأخذ بأسباب العلم والتكنولوجيا.. وأيضاً حاجتنا إلي مراجعة سلوكياتنا وعلاقتنا برب العالمين.. وأن التدين الظاهري ليس هو الهدف وأن الدين الحقيقي هو الذي يدعونا إلي الفضائل والأخلاق الرفيعة والضمائر الحية والأمانة والعمل والإخلاص والشرف والتجرد والابتعاد عن الأنانبة والانتهازية والخداع والكذب، وأيضاً أهمية الحفاظ علي الأوطان.. والوعي بخطورة الضعف.. وأيضاً ضرورة استعادة أنفسنا وهويتنا. تسلم الشدائد والمحن.. التي أعادت الثقة بين الدولة والشعب.. وأظهرت حقيقة الدولة وصلابتها في مواجهة التحديات والمخاطر والتداعيات

. تحيا مصر