هيرمس
شايل جيل

في بلاط صاحبة الجلالة (3)

موسي صبري.. 50 عاماً في قطار الصحافة.. والسياسة

عند زيارة الكاتب الصحفي الكبير أحمد عباس صالح لصديقه الموهوب وأستاذ أساتذة مهنة الصحافة. موسي صبري وهو في مراحل مرضه الأخيرة. فوجيء بأنه لا يتوقف عن التدخين.. ويحرص علي إشعال السيجارة من الأخري. 
حاول عباس أن يقنعه بأن يتوقف.. وكان رده أن الأطباء سمحوا له بأن يدخن كما يشاء.. أدركوا أن النهاية تقترب.. سواء توقف.. أو استمر في التدخين. 
فجأة.. وجه موسي لضيفه سؤالاً.. لا أشك أنه كان يعرف إجابته.. سأل: 
ألم تر أن جيلنا يرحل سريعاً.. أفكر الآن أننا خدعنا خدعة كبيرة. وأن المتصارعين علي السلطة.. استخدمونا لصالحهم أسوأ استغلال. 
والحقيقة أن لا أحد كان يستطيع استخدام هذا الصحفي الموهوب في الصراع علي السلطة.. دون إرادته وإنما اختار أن يساند الرئيس السادات بكامل إرادته.. وأن يتصدي لخصومه السياسيين الذين لم يسلم أحد منهم من اتهاماته.. التي تصل إلي حد الخيانة. 
كان يردد أن أصدقاءه يداعبونه بهذه العبارة: 
"يا بخت من تؤيده.. ويا ويل من تعارضه". 
والوقائع تثبت أنه كان بمقدوره أن يقول للسادات: لا.. حدث ذلك عندما قرر الرئيس الهجوم علي حزب العمل.. رداً علي المقالات النارية.. للدكتور حلمي مراد. 
وطلب الرئيس من إبراهيم نافع رئيس تحرير الأهرام.. أن يشن حملة علي الحزب.. ونفذ الأمر.. وخصص صفحتين من الأهرام لذلك. 
بينما رفض موسي.. بحجة أن حزب العمل لا يحلم بحملة للدعاية أكثر من ذلك.. ولم يغضب السادات.. وقال له: انت حر فيما تكتب. 
*** 
المرض فرض علي المحارب القديم.. أن يستريح.. رغماً عن إرادته. فهو لم يعتد الراحة طوال مشواره الصحفي. 
في عام 1960 قرر مصطفي أمين أن يستعين بالكاتب الكبير أحمد بهاء الدين لرئاسة الأخبار. 
غضب موسي نائب رئيس تحرير الأخبار.. والدينامو الذي يسير العمل اليومي. 
استعان بشقيق مصطفي وشريكه في مؤسسة الأخبار علي أمين.. ليقنع مصطفي بالتراجع عن قراره.. وفشلت المحاولة. 
هدد مصطفي بأنه سيستقيل.. فلم يعلق.. وينال استقالته فوراً. 
استجاب موسي لطلب صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة. المشرف علي صحيفة "الجمهورية" للعمل بها. وكان توزيعها محدوداً.. لأن الطابع العقائدي.. للتعبير عن أفكار الثورة ومبادئها.. لا يجتذب أغلب القراء.. الذين كانوا يقبلون علي "الأخبار".. لأسلوبها الصحفي المميز وأسلوب عرض موضوعاتها المشوق. 
اعتبر العاملون بالصحيفة.. أن موسي لن يكون متحمساً للعمل بسبب تصريحاته العديدة بأن الأخبار وحدها هي الصحيفة المهنية.. أما غيرها فليس لها علاقة بالصحافة ولم يكن سراً يذاع أيضاً.. الخلاف بين مصطفي أمين المعروف بتغليب العقل علي العاطفة.. وموسي كان كبيراً. 
وخلال الفترة القصيرة التي عمل بها موسي في "الجمهورية" أحدث في الجريدة انقلاباً في الصياغة الخبرية والإخراج انعكس علي توزيعها. 
وعندما التحقت بـ "الجمهورية" منتصف الستينيات كان حديث الزملاء الأكبر عن عبقرية موسي الصحفية التي لا تتوقف. 
عاد موسي لـ "الأخبار" بيته الأصلي.. ولكنه اضطر مرة أخري أن يعود لـ "الجمهورية" عقب نكسة 67.. مجبراً. 
كتب موسي سلسلة تحقيقات حول محاكمة قادة الطيران. عقب هزيمة يونيو.. وكان يهدف إلي امتصاص الغضب الشعبي.. وتبرئة الرئيس عبدالناصر من الهزيمة. وكشف عن حجم الفساد بين قادة الطيران من خلال وقائع التحقيق. ولكن عبارة واحدة "ما خفي كان أعظم.. كانت وراء قرار نقله محرراً بالجمهورية دون أن ينشر اسمه.. مع صرف راتبه". 
أوعز خصوم موسي في ذلك الوقت للرئيس. أنه يسعي إلي إشعال الغضب الشعبي.. والإساءة لنظام الحكم. 
ورغم أنه جاء إلينا مغضوباً عليه.. استقبلناه في "الجمهورية" خير استقبال.. وقال فتحي غانم إنه الأصلح لتولي مسئولية رئيس مجلس الإدارة بدلاً منه.. بادر بنشر اسمه علي أول موضوع كتبه ولكن الرقابة رفعت الاسم. 
توقع الجميع أن قرار النقل لسبب وحيد.. أن يحصل علي راتبه لأن الرئيس كان يعلم أنه ليس له دخل آخر.. وأن الرجل سيجلس في منزله.. ويكتفي بحصوله علي الراتب. 
كانت المفاجأة أنه من أول يوم لقرار النقل. جاء إلي الجريدة.. وأعد لها "ماكيت" جديداً. وملحقاً ملوناً "للمرأة والفن والأخبار العالمية الخفيفة".. وأنه كان أول من يحضر المبني.. وآخر من يغادره. 
استطاع موسي أن يبث روحاً جديدة بين المحررين. يقدم عشرات الأفكار الطازجة لكل الأقسام.. لتطرح في الاجتماعات اليومية.. عرف كل مندوبي الوزارات بالاسم.. وكان يستدعي كلاً منهم ليكلفه بتغطية خبر مهم.. ويفاجأ المحرر بأن موسي يعرف كل موضوع يبحث في وزارته.. قبل أن يصل علمه إلي المحرر المسئول. 
كان مكتبه مفتوحاً طوال اليوم لأي محرر.. يتقدم الصحفي بخبر عادي.. فيتحول بأيدي موسي.. إلي خبر صفحة أولي بعد صياغته الجديدة.. ثم إلي تحقيق صحفي يجريه بقسم التحقيقات.. ومقال يكتبه موسي بدون توقيع. 
فسَّر البعض هذا الحماس. بأن صبري يريد أن يبلغ من أبعدوه بأنه عصي علي "الكسر".. وأن كفاءته هي سنده الوحيد.. وأنه قادر علي العمل حتي لو غضب عليه أكبر رأس في الدولة. 
ارتفع توزيع "الجمهورية" بصورة غير مسبوقة. خاصة بعد أن قرر موسي أن تخوض الصحيفة معركة أخري رفعت من أسهمها.. عندما نجح في حصول الجمهورية علي حق نشر مذكرات أكبر قواد الجيش السوفيتي في الحرب العالمية المارشال "زوكوف".. وكانت الأهرام قد فشلت في الحصول علي شراء المذكرات.. وفشلت المحاولات. 
وتولي موسي كتابة الحملة الدعائية.. في الصحف المصرية والتليفزيون.. ودور السينما في الإسكندرية والقاهرة والمحافظات.. والتأكيد علي أن حقوق النشر لـ "الجمهورية" وحدها.. كما تم الاتفاق مع عدد من الصحف العربية علي النشر في نفس يوم نشر المذكرات في "الجمهورية". 
كانت المفاجأة أن الأهرام بدأت نشر المذكرات!!.. ونجح موسي في إقناع فتحي غانم رئيس مجلس إدارة "الجمهورية" أن يتحرك ضد هذا العدوان.. وبالفعل لجأ إلي القضاء.. لمواجهة هيكل.. علماً بأن الروائي فتحي غانم لم يكن يهتم طوال رئاسته لـ "الجمهورية"... بأن يتدخل في صراعات السلطة وكتب موسي خبراً بعنوان "سابقة خطيرة في تقاليد الصحافة. الجمهورية صاحبة الحق القانوني في الانفراد بنشر المذكرات. ثم بدأ موسي في إعداد الحلقات للنشر ليسبق الأهرام. 
كانت الأوساط الصحفية مهتمة بأن "الجمهورية" تقاضي الأهرام وتطالب بمصادرته.. وانتشرت الشائعات حول ما وراء هذا الحدث.. وعما وراء الهجوم علي محمد حسنين هيكل وتدخلت النقابة برئاسة نقيب النقباء كامل زهيري وأنصفت "الجمهورية".. "لا يجوز لمؤسسة صحفية أن تتعرض لحق النشر الذي تشتريه موسسة صحفية أخري من مؤلف أو ناشر أجنبي". 
ورفع تأثير تلك الحملة توزيع "الجمهورية".. وأعاد الاعتبار إلي الصحفيين العاملين بها. 
*** 
أنهي موسي صبري مذكراته "50 عاماً في قطار الصحافة" بتلك العبارات: "لعل لي أخطاء عديدة.. أو خطايا في عملي الصحفي قرابة نصف قرن من الزمان.. ولعل غيري أقدر علي إيضاحها. ولكني والحمد لله لم أنشر خبراً أعلم أنه كاذب. ولا سطوراً وراء نفع شخصاً.. ولم أستثمر قلمي في مال حرام. 
صدق الرجل في حديثه عن ذمته المالية. ولكن النفع الشخصي ليس مادياً فقط.. فالاقتراب من السلطة له ثمن. وقد اقترب من السادات إلي حد أنه كان يفوضه في تكليف رئيس وزراء مصر ممدوح سالم.. بتكليفات كان من المفترض أن يبلغها الرئيس بنفسه. 
كان موسي يرفض شعار إحسان عبدالقدوس وفي خصومه "أجرح دون إسالة دماء". وآثر أن يري دماء خصومه الذين هم خصوم رئيسه المحبوب في الوقت نفسه. ولم يستثن أحد الذين كان يزعم أنه يحبهم ويحترمهم. مثل خالد محيي الدين وصلاح حافظ. الذي اعترض علي وصف أحداث يناير 1977 بأنها انتفاضة حرامية. فشكك موسي في ولائه الوطني.. لأنه شيوعي.. وكان رد صلاح عنيفاً.