هيرمس
شايل جيل

نجمات عالم المطبخ

استخدمت شتى أنواع المواصلات، ما تركت ركوبة إلا وجربتها، على أمل الوصول لدرب المعرفة.

فقد علمتني الحياة أن المعرفة مكنونة في الحواري، ورديفة تجارب الأزقة، كما المعاني ملقاه بالطرقات الشاقة، الوعرة.

 فبين العثرات، نعثر على الخبرات. لذا، فحتى "التوك توك" قد جربته، فضلًا عن عربات الربع نقل .. وبينما كنت أقف بعربة المترو في صبيحة يوم خريفي رطب، دخل عجوز ضرير يتكفف الناس، وظل يسأل الرُّكَاب بصوت رخيم يفوق عذوبة أشهر المذيعين في الإذاعات المصرية.. صوت ما سمعت في حسنه قط، ولو شئت وصفه، لعجزت عن ذكر طوفان المنح الربانية، حينما يجود الله بعطاياه من الموهبة.

إن نبرات صوت المسن وحسن منطوقه يفوق في لمعته وبريقه، أساطين الإذاعة المصرية؛ جلال معوض، سامية صادق، وفاروق شوشة.

تتبعت العجوز لجمال صدي صوته المؤثر، بل أعطيته من كيسي، دون أنتظار ثوابًا من الله، فلم تكن نيتي مساعدة فقير، بل كنت مجذوبة، كمن عثر على ياقوتة في يد مُعوِذ.
نزل ذو الصوت الرخيم من العربة وتركني وحدي أموج مع  تساؤلاتي:

 - إذ كيف لموهبة صارخة كتلك أن تخبو دون أن يستفيد منها صاحبها؟

- أكان ينقصه التوفيق، فلم تُتَح له فرصة سماع صوته من كبار الإعلاميين؟

- أربما، وعشرات الربما، والف تساؤل يثور في نفسي لمعرفة أسباب تيه الإنسان في درب معرفة ذاته ولما يعجز عن معرفة الجوانب المشرقة في شحصيته.

 - ولما لا يفتش الإنسان في نفسه ليعثر على موهبته المودعة في أحشائه؟ 

فقد نشأنا على أن النجاح حليف الدراسة والشهدات ورديف الحظ و"لوتاريا" النصيب أو قرين أفيشات السينما، فندر من تعلم الحفر في منجم شخصيته لإستخراج ذهبه من تحت طينه، فأغلبنا سليل تعليم تلقيني، نمطي لا يفرز سوى موظفين لا يفكرون لا خارج الصندوق ولا حتى داخله.

لاحقًا، جمعني القدر بنسوة أثبتن أن اختراق عوالم النجاح لا يحتاج لصوت أخاذ، ولا يعتاز أضواء سينما، فقد حققن النجاح، وفزن بالتحقق وتحولن لنجمات يشار إليهن بالبنان .. من باب المطبخ!
 

أربع سيدات صار لأسمائهن جرس رنان يفوق أعذب الأصوات ومظهر النجمات الذي ينافس أشهر الفنانات. 

السيدات الأربع من عائلات أرستقراطية يجمعهن تاريخ دراسي بمدارس فرنسية، و على هذا، فقد تحررن من التقيد من أسر الدراسات النمطية ودون النظر لعامل السن. فلسان حالهن أقسم على النجاح بعناد مدهش .. ولو بعد حين.

النسوة الأربع ركبن عربة الشهرة كفارسات امتطين الفرس بخبرة من يقود وهو عليم بشعاب مكة، وبلا حاجة لدليل.

كما التفت لاشتراكهن في الاعتراف بالدور البارز الذي لعبته الجدة والأم في حياتهن بالإغداق عليهن بالرعاية وبالتعريف بالطبخ وأسراره، وأكثر من ذلك بالدعم النفسي. 

أما أنا فأدين لمربيتي دادة "فتحية" بالكثير من اللحظات المرحة في طفولتي بالمطبخ، ما جعلني أشعر أنه يصلح لمكان ترفيهي، لا مجرد ورشة عمل شاقة.

"غادة التلّي"وهي من أصول أردنية- مصرية، تعاملت أيضًا مع المطبخ كمكان ترفيهي، فكان لنشأتها ببيت جدتها في مصر السبب الأول لحبها للمطبخ، فأسلوب الجدة الجذاب شجعها على تعلم الوصفات المصرية اللذيذة. وعندما تزوجت لاحقًا بابن عمتها، انتقلت للإقامة في الأردن، وكان هذا تدبير رباني أتاح لها تعلّم أسرار المطبخ الشامي من عمتها الأردنية. 

ما يلفتني في غادة هو استبعادها لخيارات متعددة لدراسات جذابة، لثقتها بأن طريق نجاحها ممهد من عتبة المطبخ. فأجادت التقاط الإشارات حين انبهر ضيوفها لدى تذوقهم لطعامها، ما أشار لها بمعالم خارطة طريق تميزها.

ثم جائتها فرصة الانضمام لقناة "رؤيا" في عام 2011، فأصبح لها فقرة طبخ لاقت قبول المشاهدين، تبع ذلك تقديمها للعديد من البرامج، كما انشأت مجلة "زعفران وفانيليا" فضلًا عن اصدراها لكتابين لوصفاتها.

اما "داليا البدر" فملامحها المميزة، الجميلة تشي بأصولها المصرية-الكويتية وقد عشقت المطبخ بفضل جدتها كما أن والدتها كانت موهوبة في الطهي، فكان الجميع يطلبون منها أكلات بعينها كالحمام وفتة الكوارع والبط. في حين لم تلمس داليا، في نفسها حب المطبخ سوى بعدما تعلمت عمل "الكريم كراميل" فى مدرستها، فعادت لبيتها ونفذت الوصفة.. وشعرت مذ ذاك اليوم أن شغفها مرتبط بالطهي، ومن ثم بدأت في شراء المجلات، بحثًا عن الوصفات، ثم شرعت في تدوين ما يعجبها حتى صار لديها مجلدًا مصورًا، ثم رأت لديها القدرة على تعديل الوصفات. لاحقًا، التحقت بالقسم الأدبى رغم ميولها العلمية لتقطع على نفسها الإنشغال بأي مجال أخر سوى الطهي. وتجلت موهبتها بعد الزواج سيما في العزائم، فقد دعّم الثناء المكرر لديها إحساسها بضرورة الإستمرار في هوايتها، لكنها رفضت دخول مجال "الكاترينج" حيث شعرت بأن شغفها الأساسي هو "تعليم الطبخ للمبتدئات"، فأنشأت صفحتها الشهيرة "دوندشة" لتعليم الوصفات، بطرق سهلة، فلاقت شهرة واسعة من خلال منصات التواصل، ما جعل الصحف والمجلات تتسابق في نشر وصفاتها.

- لكم تشبه الموهبة عود الثقاب، فهو في علبته لا جدوى منه، سوى لو قام أحدهم بقدح العود لإشعاله..

كذلك الموهبة قابعة في نفس الإنسان حتى يجد جدة، أم، أو مدرس يشعلنها بتنبيه المرء لمكان وجود موهبته.

ونادرًا ما تلتفت العائلة لخطوة استخراج موهبة أبنائهم من علبتها واشعالها لتوعية الأبناء بأماكن التميز في شخصيتهم، بل يكتفون بتوفير التعليم النظامي دون إرشاد صغارهم لمواهبهم في الطبخ، الرسم، الرياضة أو سواها.

فيما يتعلق ب"داليا البدر"، لم يكن للجدة والوالدة -فقط- بصمات في مساعدتها، بل كان "لأدهم" ابنها الوحيد ولصديقتها "نرمين صدقي" أداوار فاعلة في دعمها وتشجعها على تعليم الطبخ للمبتدئات، من خلال قناة "دوندوشة" على اليوتيوب، فضلاً عن صفحتها المتخصصة في شوؤن الأسرة والتي تحمل نفس الإسم، ما حدا بها لتعلم عمل الفيديوهات والتصوير والإخراج والإيديتنيج. 

- سنقابل الآف البشر في دروب الحياة، لكننا سنظل أسرى لتقدير من أعانونا على اكتشاف أنفسنا، ولن ننفر من أحد، نفورنا ممن أحبطونا وأضلونا الطريق.

يقولون: أن العظيم، من تشعر في حضرته أنه عظيم.

لكن إن شئنا الدقة، فالعظيم حقًا، من إن خالطته، أشعرك أنك أنت عظيم.

لذا، فلن يؤثر فيك أحد أكثر ممن أخبرك يومًا بصدق:

:استمر، أجدت، أحسنت، أبدعت، أقدرك وأراهن على نجاحك.

وسيرسل الله لك يومًأ، جدة، أم، أدهم، نرمين صدقي أو أمثالهم ممن سيؤمنون بك وبموهبتك. 

هم هدايا الرحمن، ملائكة بشرية، مستنطقين لإرشادنا لجادة النجاح ولميادين تحقيق الذات.

أما "لمياء رجب" فقد رسم لها القدر خارطة طريق وعرة لكنها تحدت الصعاب ووصلت لدرب النجاح ..

فقد رحلت والدتها ولم تكن "لمياء" تخطت بعد الثامنة عشر من عمرها، وكان "رمضان" على الأبواب، فاضطرت لدخول المطبخ مستعينة بمشورة أمهات صديقاتها، فتعلمت فنون المطبخ السورى من والدة صديقتها الشامية والأكل الخليجي من والدة صديقتها الكويتية، وهكذا، حازت الخبرة من أهل الخبرة، إلى أن جاء بوم واتصلت بها إحدى الصديقات، تستنجدها .. فأهل زوجها سيأتون لزيارتهم من الصعيد، فما كان من "لمياء" سوى أن ذهبت إليها بنفسها، وأولمت لها وامتدت السفرة بأشهى الأطباق وبترتيب على مستوى شديد التميز. 

وبدأ الجميع يشكرون في جودة الطعام معتقدين أنه وارد من مطعم خمس نجوم. 

فأخبرتهم صاحبة الدار أن "لمياء رجب" هي ال "كيترينج". هنالك صدمت لمياء كونها لم تكن تعلم معنى "كيتيرينج". فنتج من أثر تلك العزيمة فكرة
CHEZ LILI  

لتوريد الطعام في الحفلات والولائم .

تمر السنوات، وتقابل "لمياء" سيدة مسنة من مدينة "دسوق"، لتعلمها طريقة صنع كعك العيد، فكانت فاتحة خير عليها، حيث اشتهرت "لمياء رجب" بعمل الكعك و الغريبة حتى قامت بتوريد الكعك لكبرى محلات الحلوى .. وصار 
CHEZ LILI  
علامة مميزة في عالم توريد الطعام الجاهز للحفلات والولائم.
 
أما "سمر سليمان" صاحبة أشهر مركز متخصص في مصر لتنظيم كورسات تعليم الحلويات، فقد بدأت مشروعها مباشرة بعيد دخول ابنتها الجامعة، حيث شعرت بضيق من وجود وقت فراغ لديها، وكانت وقتئذ لا تجيد عمل- حتى- الكعكة الإسفنجية، فشجعتها والدتها على البحث عن الوصفات.. ومن ثم بدأت "سمر" تبيع الحلوي والمعجنات لأصدقائها في النادي، فلاقت منتجاتها اقبالًا كبيرًا، ثم بدأت تشارك فيما يعرف ب  

"اوبن دايز" ما يعني توسيع دائرة توريد منتجاتها، وخرجت من هذه التجربة وقد تعلمت تنظيم الوقت والسرعة ومهارات البيع .. وهي أشياء لا نتعلمها في المدارس والجامعات.

تلا ذلك، انشاء صفحة على منصات التواصل لتصريف منتجاتها من خلالها، ثم بدأت "سمر" مرحلة صنع كعكات عيد الميلاد الكبيرة بعد أخذ كورسات لدى مدام "سارة عرام".. ولا تنسى "سمر" أن والدتها قد أخبرتها أنها ستدرس معها بنفس الكورس لتشجيعها.
المفارقة، أن والدتها القديرة قد رحلت ولاقت ربها قبيل أول كورس.. 

قد نتأخر في معرفة موهبتنا، لا ضير، فالمليح يبطئ، لكن المهم أن نستمر في المضي حتى الوصول .. وأن نثمن دور من يساندونا في الحياة وإن رحلوا، فذكرى تشجيعهم باقية ..

فلا أهم من أم تشارك في حضور كورس لتشجيع ابنتها.

ولا أعظم من أب يزرع بذور الثقة في نفوس صغاره ليكونوا أنفسهم.

فتحايا بملئ الكون ل"غادة التلي" و"داليا البدر" و"لمياء رجب" و ل"سمر سليمان" ولجداتهم وأمهاتهم ولأبنائهم وأصدقائهم ولكل من شجع ودعم.

فعن نفسي، لو لم أجد من يرشدني  لدرب موهبتي في الكتابة .. لربما كنتم قابلتوني يومًا بعربة السيدات بالمترو، اتسول جنبًا إلي جنب صاحب الصوت الرخيم!