هيرمس
شايل جيل

محاولة للفهم

نصف قرن في بلاط الجمهورية (12)

توجه العقيد حمدي عبد الكريم، مدير مكتب الصحافة بأمن الدولة، الى الجمهورية " ليلتقي رئيس مجلس الإدارة محسن، محمد ويعلمه أن قرار عودتنا لعملنا، لا يحتمل المناورةـ، وان عليه أن يصدره فوراً.

تم إبلاغ محسن بزيارة العقيد قبل أن يغادر مكتبه وطلب منه لا يغادر مقر الصحيفة حتى يلقاه.

ولكنه فوجئ عندما وصل غرفة السكرتارية، بأحد مساعدي محسن (علاء دواره) يبلغه انه كان في انتظاره، لولا ظرف طارئ خاص بأسرته اجبره على السفر الى الإسكندرية.

وأضاف، انه وقع قرار إعادة الزميلين ولم يعد لوجوده أي مبرر، وعليهما أن يتجها في  الصباح الى الإدارة لإنهاء الإجراءات التي ستتم فوراً، وفق أومر رئيس مجلس الإدارة.

واخذ علاء يكيل للرجل المديح، وان رئيس مجلس الإدارة كان يرغب في استقباله، لولا هذا الظرف الطارئ، وانه يروجوه أن يحدد موعداً آخر لأن لديه وقائع عديدة يرغب في مناقشتها معه وهنا اتجه العقيد اللواء حمدى عبد الكريم الى أريكة في غرفة السكرتارية، وخلع حذائه وقال انه لن يغادر الجريدة حتى يستدعى عن طريقنا من الإسكندرية.

ثم أرتفع صوته:

محسن لم يغادر الجريدة، وأرجو أن لا  اضطر أن افتحم الغرفة التي يوجد بها، نحن لا نلعب لعبة القط والفار: المسألة أكثر جدية مما يتوقع رئيسك.

فجأة ظهر محسن، وأعلن انه ابلغ بأهمية وجوده، قبل أن يغادر الى الإسكندرية، وطلب من ضيفه أن يصحبه الى غرفة مكتبه.

انسحب علاء من المشهد، ووجه محسن حديثه للعقيدة؟

ماذا تريد مني بالضبط، طلبتم أن أقابلهما وفعلت.

والان تطلبون أن إصدار قرار عودتهما وفعلت، هل هناك طلبات آخري.

ورد العقيد:

ننتظر منك الكثير، فما زالت هناك طلبات يجب أن تنفذ، وربما لا تعلم أن ما يجرى في النقابة يزعج الأمن، كل مرشح يستغل تصرفاتك غير المسئولة وغير المبررة، ليشحن زملائه ضد مرشح الدولة والمسئولين في النقابة ويتهمهم بالتقصير، وبالتقاعس عن مساندة زملائهم، بل وصل الأمر الى حد الادعاء أن تصرفاتك تمت بالتنسيق مع إبراهيم نافع، مما دعاة الى التهديد بعدم خوض المعركة، وانه قرر الانسحاب، ولا احد سيعرفك لو أعلنت أنك أصدرت قرار إعادتهما، لان سوابقك لا تساعد على الثقة، وما يتطلب أن يكون للنقابة دور

سأل محسن: ماذا يمكنني أن أفعل؟

رد عبد الكريم: أن تستقبلهما وتعتذر عما جرى تنهى الإجراءات، وسنرى بعد ذلك ما يجب أن تفعله مع النقابة.

تلقى فيليب جلاب سكرتير نقابة الصحيفين، اتصالاً من العقيد (اللواء) حمدي عبد الكريم.. يخبره بان رئيس مجلس الإدارة ينتظرنا في مكتبه غداً ولان العلاقة بين فيلب وعبد الكريم كانت قوية فقد الح عليه أن يروى له ما حدث في اللقاء بتفاصيله الدقيقة، خاصة بعد أن تسرب من مكتب محسن واقعة حذاء عبد الكريم.

سأله فيليب: هل خلعت الحذاء فعلاً؟

نعم ولولا ذلك ما ظهر محسن

وربما لم ينل أحد ضباط امن الدولة المسئولين عن الصحافة، ثقة أبناء المهنة، كما حصل عليها هذا الرجل.. حمدي عبد الكريم الذي رأس مكتب الصحافة بأمن الدولة حتى رتبه اللواء، ولم يثبت انه تربص بأحد الصحيفين سواء المؤيدين أو المعارضين للحكم وإلصاق بهم جرائم لم يرتكبوها.

وبقدر ما كانت العلاقة بين أحد الصحفيين وضباط مكتب الصحافة تثير الشبهات، إلا أن الأمر اختلف مع هذا الإنسان، الذي كان يمارس وظيفته وفق مفهوم سياسي.

وليس معنى ذلك انه لم يعتمد على بعض الصحفيين في رصد ما يجرى داخل الصحيفة مما يمس الأمن، ولكنه كان يدقق في المعلومات، ويحذر من السقوط في بئر الشبهات وما ينتج عنها من الحاق الظلم بالأخريين.

لم التق بالمرحوم اللواء حمدي عبد الكريم، إلا بعد سنوات طويلة في مناسبة خاصة بزميلي في قسم الصحافة بآداب القاهرة الدكتور كرم شلبي، وكان ترك الخدمة بعد إصابته بالسرطان، واستعدنا تلك الأحداث خاصة واقعة الحذاء وانتقل الحديث الى كتاب التقارير من الصحفيين وكان رآيه أن بعضهم كان يراعى ضميره فيما يكتب!! وان كانت غالبيتهم يسعون للاقتراب من السلطة، وإظهار الولاء للأمن حتى يتم ترشيحهم للمناصب الصحيفة البارزة، ومن بينهم من كان يطلب خدمات صغيرة ويكتفى بالحصول على مقابل مادي محدود !!، وفى كل الأحوال كان على رجل امن الدولة أن يتعامل مع هذا الصنف من البشر ليحصل على المعلومات، لان معظم الصحفيين لا يحترمون هذا السلوك.

وتحدث عبد الكريم عن الطرف الآخر الذي يتلقى التقارير منهم من يدقق في كل التفاصيل، ويراعى أن كاتب التقارير قد يكون مغرضاً، ولذلك عليه أن يحتاط حتى لا يظلم أحدا، وهناك من بين الضباط من لا يشغل نفسه بأمر سلامة التقارير من عدمه، ويقدمه للرؤساء دون تدقيق.

وقلت لا أظن أن من يقبلون أداء تلك المهام، يمكن أن يراعوا ضمائرهم أو ان تكون نواياهم طيبة.

واذكر أن أحد هؤلاء دخل مكتب الكاتب الصحفي الكبير محمد العزبي ووجده يتناول إفطاره مع زميل آخر صرخ في وجهه قائلاً: حرام عليك تأكل مع الرجل ثم تكتب عنه تقارير تدخله السجن.

وكانت المفاجأة أكثر من أن يتحملها الرجل أنكر الاتهام، واقسم انه لا علاقة له بالتقارير ورد عليه الآخر لوم سمح لي الأستاذ العزبي فسوف انقل له التقارير بالكلمة والنقطة والفاصلة.

وانسحب كانت التقارير بينما العزبي يرجوه إلا يأخذ كلام زميله على محمل الجد، وانه لم يصدق ما قاله، لان العشرة الطويلة فيما بينهما اقوى بكثير من أن نفرط فيها.

وفى اليوم التالي حرص العزبي على دعوة كاتب التقارير لتناول الإفطار معه، واقتسام "السندوتشات" التي احضرها من منزله ربما يستيقظ ضميره... ولا يكتب في التقارير إلا الحقائق وحدها.

كتب العزبي:

زمان كانت لعنة وسبه أن تتهم أحدا، بانه يتجسس على زملائه، ويعمل لحساب أي جهاز امن ورقابة،  وما أكثرها في في بلادي، ربما أملاً في خير يأتيه، وخصوصاً أن رأى الأمن ضروري عند الترقي

يواصل العزبي:

مضى هذا الزمن بعد أن أصبحت كتابة التقارير عادية، وعلنية، ولا يحتاج أصحابها لضغط أو إغراء ليقوموا بالمهمة، بل أصبحت المشكلة انتشارها وقلة زمتها.

وأصبحنا لا نسأل رد القضاء أنما اللطف فيه بالصدق وقليل من الأخلاق.

ويروى العزبي تلك الواقعة:

كان لنا زميل اشتهر بكتابة التقارير ولم يكن يخفى الأمر بل يفخر به أو يهدد.

جاء يوماً يقول علناً انه ابلغ عن أحد رؤساء التحرير بما يفيد تعاطفه مع الجماعات الإسلامية، ولما كان الرجل المشكو في حقه ابعد ما يكون عن هذا الاتهام بأفكاره وسلوكه، فقد ابتسم واحد من المستمعين، وقال يا شيخ!!

أجاب الزميل: أنا عارف بس دي التهمة اللي ماشية هذه الأيام.

أنهي العقيد عبد الكريم مهمته مع محسن وجاء الدور علينا

لم يكن صلاح عيسى بحاجة الى إقناع أن يترك لي مهمة اللقاء مع محسن، قال أنا لا أحب أن أرى هذا الرجل،

توجهت الى الجمهورية وقد عقدت العزم على إلا اترك لمحسن أية فرصة لإفشال مساعينا.

توقعت لقاء بارداً ينتهي في لحظات احصل على القرارات وأنهى الإجراءات في الإدارة وأسعى للحصول على إجازة بدون مرتب.

استقبلتني سكرتيرية محسن وهى مبتسمة وقالت الرئيس ينظرك وسبقتني الى غرفة المكتب تعلن وصولي

استقبلتني بطريقة عادية لا هي ترحيب ولا نفور

وفاجأني بالسؤال:

أين صلاح عيسى؟

أجبت لديه ارتباط سابق لم يستطع الفكاك منه ووكلني في إتمام كافة الإجراءات.

قال لا ليس هذا هو السبب يا أستاذ

توجهت خشية أن تبدأ المراوغات ولم أرد.

استمر في حديثه صلاح لا يريد أن يمدني بالوثائق التاريخية عن الحرب العالمية الثانية، التي احتاجتها لكتابي الجديد ابلغه اننى لن اتركه يهرب من وعده.

تملكتني الحيرة أي وعد هذا الذي يتحدث عنه الرجل وآخر لقاء بينهما كان عاصفاً وكان الود بينهما مقطوعاً.

قدم الى محسن القرارات موقعاً عليها بالموافقة، والإدارة للتنفيذ فوراً.

حاول الرجل إخفاء ما بداخله وانه اضطر للموافقة رغماً عنه، وهو الذي اعتاد أن يأمر وينهى فيتسابق الجميع الى تنفيذ أوامره والحصول على رضاه

عدت الى النقابة على ليسلمني السكرتير العام شهادة من النقابة على عودتنا جاء فيه.

نشهد نحن الموقعان، فيليب جلاب سكرتير عام نقابة الصحفيين، ومحمد حسن البنا عضو مجلس النقابة، انه تم الاتفاق بين الأستاذ محسن محمد رئيس مجلس إدارة دار التحرير (جريدة الجمهورية) طرف أول، وبحضورنا كممثلين لمجلس النقابة على ما يلي:

تعيين الأستاذين رياض سيف النصر، وصلاح عيسى بعد أن زالت الأسباب التي دعت الى فصلهما من عملهما بجريدة الجمهورية، ابتداء من الخامس من شهر مارس 1987

أن يحسب رابتهما على أساس متوسط ما يحصل عليه زملائهم من المعينين في نفس التوقيت أو المتخرجين في نفس العام وأيهما أفضل، بدون العلاوات الاستثنائية والحوافز التي حصل عليها هؤلاء الزملاء

وهذه شهادة منا بذلك

التوقيع.. محمد حسن البنا .... فيليب جلاب

وللحديث بقية،