هيرمس
شايل جيل

نصف قرن في بلاط الجمهورية (3)

قرَّر الرئيس عبد الناصر أن يخاطب الشعب من حلوان التي انطلقت منها مظاهرات الغضب ضد الأحكام الصادرة في حق المسئولين عن نكسة الطيران.

أدرك الزعيم أن الأمر أكثر خطورة من التقارير التي تلقّاها من الأجهزة الأمنية بأنه يمكن احتوائها.

حاول في خطابه أن يمتص الغضب الشعبي الذي امتد إلى مصر كلها وليس فقط العُمّال وطُلَّاب الجامعات وأعضاء النقابات المهنية.

كما كان حريصًا في الوقت نفسه، ألَّا يُظهر أنه استجاب لكل مطالب المتظاهرين .. أو أنه خضع لتنفيذ الشعارات التي انطلقت من أفواههم مطالبة بالديمقراطية. والقضاء على الفساد والعشوائية في الحكم.

ومن هنا جاءت عباراته التي تُحذِّر من أعداء الثورة الذين يستغلون تلك الشعارات في محاولة لإفشالها.

وقبل أن يلقي الرئيس خطابه ... بدى الخطاب الرسمي أشد تعقُّلًا، فقد أشار الدكتور/ محمد حسن الزيات في مؤتمره الصحفي الاسبوعي، أن المظاهرات أظهرت مشاعر الناس في قضية تتهمه، خاصة بمحاكمة المسئولين عن نكسة الطيران.

واعترف شعراوي جمعة يوم 28 فبراير، بتجاوزات الشُّرطة مع المتظاهرين ... واعتذر عنها .. وقال أن الرئيس كان قد أصدر تعليماته بالسماح للمتظاهرين بالخروج للتعبير الحُرّ عن الرأي.

وقال وزير الداخلية .. أن تطور الموقف هو الذي أدى إلى تدخُّل الشُّرطة، وأن الإفراج يتم عن المتظاهرين.

ومن يُراجع مواقف وزير الداخلية «شعراوي جمعة»، منذ يوم 20 فبراير عندما صدرت الأحكام؛ للضغط على رؤساء الجامعات بالحرص على عدم خروج المظاهرات إلى الشارع، وتهديد العُمّال بأن الشُّرطة ستتصدى لمظاهراتهم، يلمس مدى التغيُّر الذي حدث على الخطاب الرسمي للحكومة المصرية.

أدرك الرئيس عبد الناصر أن إلقاء الخطابات المطمئنة لن تكفي لإعادة الثقة المفقودة، وأن الموقف يتطلب إجراءات عملية تقنع الناس بأن هناك نوايا حسنة للتغيير.

لذلك قرر تشكيل حكومة جديدة من أصحاب الخبرات الذين يحظون بتقدير المواطنين ... بعيدًا عن الوجوه القديمة التي لفظها الناس.

وعقدت الوزارة الجديدة أول اجتماعاتها في يوم الأربعاء 30 مارس 68، وكان تم تكليفي بعمل تحقيق صحفي عن الوزراء الجُدد في أول يوم للعمل من مكاتبهم .. وشاركني زميلي «محمد حسين شعبان» في التغطية.

ولم نجد أية صعوبة في إعداده .. حرص الوزراء الجُدد على الالتقاء بالصحفيين .. وكانت مكاتبهم مفتوحة أمام الجميع. 

تركت التحقيق الصحفي في مكتب رئيس التحرير «فتحي غانم»، واخترت له عنوان (الوزراء الجُدد يفتحون حقائبهم للجمهورية) ومُرفق به الصور:

تم نشر التحقيق على صفحة كاملة .. يتوسّطه صورة لي مع وزير الري «إبراهيم زكي قناوي» .. وهو يفتح حقيبته أمامي .. ويُقدِّم المشروعات التي أعدها بمجرد تكليفه.

اهتمت الصحف الأخرى بأخبار الوزارة الجديدة، وأفردت صفحاتها لتصريحات الوزراء الجُدد .. كما حدث في الجمهورية.

لاحظت زيادة الترحيب بي من سكرتارية التحرير، وقال لي أحدهم أن رئيس التحرير أُعجب بالتغطية .. ولأول مرة يطلب الاطلاع على (الماكيت).

وبقدر سعادتي بتقدير الرجل لي .. اشتدت حيرتي فالتحقيق الذي أجريته لا يختلف عن الصُحُف الأخرى، إلا في تصريحات الوزراء الجُدد الذين كنت أتعامل معهم قبل في السابق ومنهم «حلمي مراد» .. و«ضياء داوود» ... و«وصفي الدين أبو العز».

كما أن علاقتي بالرجل كانت في حدود ضيقة .. على عكس علاقتي برئيس التحرير التنفيذي «إبراهيم نوّار»، الذي كان بمثابة الأستاذ .. والصديق فيما بعد.

وعندما قدَّم لي زملائي في سكرتارية التحرير تفسيرًا لموقف الرجل ولقناعاته .. كان عقلي يشد .. وحاولت أن أدافع عن الظُلم الذي وقع على الجمهورية .. من الأصدقاء ... والأعداء.

قالوا أن «فتحي غانم» قدَّم (للجمهورية) ولديه صورة قائمة عن مستوى الصحفيين العاملين بها، وأن منهم من يرتدي (بالطو أصفر) مثل مخبرين الشُّرطة .. وليسوا صحفيين؛ لذلك يتحمس لأي عمل مهني يقدَّم إليه. 

ولم أخف انزعاجي .. وحاولت أن أتعرَّف على المسئولين عن تلك التصورات المأساوية التي وصلت إلى غانم وغيره من كبار الصحفيين.

لم أكن بحاجة لمن يقنعني بأن الجمهورية تضم خبرة الصحفيين، فأنا أعمل في قسم التحقيقات الذي يرأسه الصحفي المُخضرم «أبو الحجاج حافظ»، ويضم «وحيد غازي، سالم أباظة، لطفي ناصف، صلاح أبو سالم، صفية الخولي، علية الصالحي، سلامة العباسي، صالح إبراهيم»، ثم انضم إلينا «فتحي عبد الفتاح» ليمثل إضافة جديدة .. وهؤلاء جميعًا من الصحفيين المميزين.

أمامنا صالة القسم الخارجي .. «طاهر عبد الحكيم، عدلي برسوم، مصطفى كمال، عبد الحميد عبد النبي، ليلى الجبالي، أحمد العزبي، عايدة ثابت».

وتلك الأسماء تشرف أية صحيفة .. ولا يقل الذين يعملون في باقي الأقسام كفاءة عن هؤلاء، أما عن الكُتَّاب فحدِّث ولا حرج أهم كتاب مصر كان لهم مقالات في الجمهورية.

إذًا .. ما الذي حدث؟!! .. وكيف تم تشويه صورة الجمهورية؟!! .. والعاملين بها.

وأدركت مدى الظُلم الذي وقع عليها .. من الذين ساهموا في إصدارها .. والذين تولوا إداراتها وفق قاعدة (أهل الثقة .. لا أصحاب الخبرة .. والذين استضافتهم الجمهورية من الصحفيين الكبار ... ووفرت لهم الدخول الكبيرة .. ثم تلقت «جزاء سنمار» ليساهموا بأكبر قدر من تشويهها. 

ولم يخلو الأمر من صحفيين كبار شرفاء حاولوا أن يصلحوا مسيرتها .. ودفعوا الثمن غاليًا.

والسؤال .. كيف ساهم الذين أصدروا «الجمهورية» في خلق أزماتها؟!!

لنعود إلى البدايات، في 18 يوليو 53، وافقت إدارة المطبوعات بوزارة الإرشاد القومي، على طلب هيئة التحرير على إصدار «الجمهورية»، ووقع عليه نيابة عن الهيئة كل من البكباشي «جمال عبد الناصر» و«حسين فهمي» رئيس التحرير.

وبقدر ما كان صدور الترخيص، بتوقيع عبد الناصر يمثل دعمًا معنويًا وماديًا للصحيفة الوليدة، إلَّا أنه كان أحد الأسباب الرئيسية لعثراتها المتعددة .. كيف؟؟!!

كانت صحافة الثورة تشغل بال عبد الناصر، الذي كان مستاء من الصحف المُنافسة، خاصة صحيفة «الوفد» التي كانت تُطلق على الثورة «الحركة المُباركة» .. وهي عبارة طالما استفزت ثوّار يوليو، حتى تم إغلاقها عام 1954، تميَّزت الصحيفة بالأداء المهني المميز .. وكان يعمل صحفيون على مستوى عالٍ.

أما أخبار اليوم فقد كانت تضع أخبار الثورة في صفحاتها الداخلية، وتهتم بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية .. ويكفي أن صاحبيها «على ومصطفى أمين»، وكانت الأهرام بتاريخها المهني الطويل، هي الصحيفة الثالثة المُنافسة للصحيفة الوليدة.

ويروي «أنور السادات» في مقالة له بالجمهورية في 7 ديسمبر 1954، أنه ذهب إلى مستشفى الدكتور/ مظهر في يوم 4 يوليو 53، لزيارة جمال عبد الناصر، بعد أن أُجريت له عملية لاستئصال الزائدة الدودية.

وفاجأه عبد الناصر بتكليفه بإصدار أول صحيفة يومية تصدرها ثورة يوليو، لتدعو لها وتُدافع عن سياساتها.

ويذكر السادات أنه كان يُدرك إن إصدار صحيفة يومية أمر شاق وعسير، وطلب مُهلة للتفكير.

عاد السادات إلى عبد الناصر بعد يومين ليبلغه قراره النهائي .. أن هذا أمر مستحيل .. وأن المهمة التي كلفه بها تحتاج إلى وقت طويل .. ومتخصصين، وأن الأمر لا يخلو من مخاطره حتى في حالة العثور عليهم.

وردّ عبد الناصر .. بأن الثورة لابد أن تكون لها صحافتها .. والجورنال لابد أن يخرج قبل نهاية العام (أي بعد 5 شهور على الأكثر)، وطلب منه عبد الناصر أن يعتبر الأمر معركة مثل معركة 23 يوليو.

وردّ السادات على الفور: خلاص اقتنعت .. وقد نفذ الأمر في موعده كما أراد الزعيم، ما يفسر إصرار عبد الناصر على اختيار ثوّار يوليو لإدارة الجريدة.

وطبعي أن تحدث الخلافات بين الثوّار من أهل الثقة الذين يملكون سُلطة الأمر والنهي، وبين الصحفيين الذين يتلقون الأوامر .. ومعظمهم لم يقبل العمل في «الجمهورية» ... والذين عملوا لم يُكتب لهم الاستمرار طويلًا.

اختار عبد الناصر السادات .. ثم صلاح سالم .. وبعدهما كمال الحناوي .. ومصطفى بهجت بدوي.

وكان الصحفي الوحيد المُحترف الذي حظي بثقة الزعيم هو «حلمي سلاّم» .. فقد كانت له علاقة تاريخية بالضباط الشبان قبل الثورة وكانوا يجتمعون أحيانًا في بيته، وتصور أن تلك العلاقة تدعمه بعد نجاح الثورة .. ولكنه لم يستمر سوى بضعة شهور في يوليو 64 حتى مايو 65.

ولن أنسى منظر ضُبَّاط وجنود البوليس الحربي، وهم يقتحمون «الجمهورية» ويلقون القبض على جميع أعضاء قسم التصوير، بدعوة «منى سلاَّم» الذي وصلته فِرية بأن أحد أعضاء القسم يبيع الصور للصحف المُنافسة .. وثبت أنه اتهام ظالم .. ولك أن تتصور أداء هؤلاء المصورين الصحفيين الكبار بعد أن تلقوا الصدمة.

وفي كل الأحوال لم يُستبعَد سلام لهذا السبب، أنما لأسباب أخرى تتعلق برفضه الانصياع لقرارات عدم النشر التي تصدرها وزارة الإرشاد القومي.

كان حلم عبد الناصر، ألَّا يتوقَّف تأثير الجريدة التي حملت اسمه وتتحدث بلسان صورة يوليو، عند مصر وحدها وإنما يمتد إلى جميع البلاد العربية للتبشير بفكر الثورة؛ لذلك كان كثيرًا ما يُشارك في صياغة «المانشيتات» ويوالي الاتصال بالمسئولين عن إصدار الصحيفة.

وقد عبَّر السادات عن رؤية الثوار إلى الصحيفة ودورها في مقال بالجمهورية ذكر فيه «علينا أن نكون ثوّار لا صحفيين فقط».

وتناسى ثوار يوليو عن حقيقة أن الصحافة يصنعها المحترفون، حتى لو كانت تدعو إلى الثورة.

والحقيقة لا أجد أي سبب بصدمة عبد الناصر نتيجة ضعف توزيع الصحيفة، حتى إنَّ أوَّل رئيس لتحريرها «حسين فهمي» أكد أنَّ عبد الناصر فكَّر في إغلاق الجمهورية عام 1954.

وكانت الخلافات قد اشتعلت بين فهمي والسادات منذ الأيام الأولى لإصدار الصحيفة، وقدَّم أكثر طلب للاستقالة حتى قُبلت.

ويذكر «جلال الدين الحمامصي» الذى تولى الإشراف على تحرير «الجمهورية» - وكان نائبًا لمديرها العام أنور السادات -، أن عبد الناصر كان يتابع توزيعها وتملكه حزن شديد بسبب انخفاض توزيعها، حتى إنه فكَّر في تأميم الصحافة قبل تأميم قناة السويس عام 1956.

ويذكر «موسى صبري» في كتابه (50 سنة في قطار الصحافة) أنَّ «صلاح سالم» أبلغه أنَّ عبد الناصر عبَّر له عن ألمه الشديد بعد فشل «الجمهورية» رغم أنه كان صاحب امتياز إصدارها.

وأنَّ «عبد الناصر» قال له: «أنا مش مالك فيلا» الثري الذي وفر لولده الحياة الكريمة .. ولكنه يفاجأ برسوب ولده كل عام في الجامعة، بينما يرى ابن البواب الذي سكن في حجرة صغيرة في الحديقة .. ينجح ويتفوق كل عام.

وأستعيد مقولة السادات «ثوار لا صحفيين» .. في محاولة لهضم ما جرى للجمهورية وما تعرَّضت له من ظُلم.

ويبقى الحديث عن الذين فتحت لهم الجمهورية أبوابها ... وساهموا في ظلمها وإلى حديث قادم.