هيرمس
شايل جيل

محاولة للفهم

نصف قرن في بلاط الجمهورية (5)

أجري الرئيس جمال عبد الناصر، أتصال تلفونياً بالدكتور عبد القادر حاتم، وزير الأعلام وقتها، يبلغه بقراره العاجل... (فصل إبراهيم نوار رئيس تحرير الجمهورية، ورفع اسمه من " البرواز" الذي يضم رؤساء التحرير.

(وطلب وزير الأعلام من كامل الشناوي، الذي كان ضمن قائمة رؤساء التحرير مع (طه حسين، صلاح سالم، موسي صبري، ناصر الشاشيبي، إبراهيم نوار) أن ينفذ قرار الرئيس فوراً!

(ولا بد أن المهمة كانت في غاية الصعوبة على الشناوي، لأنه يعلم أن نوار وحده يريد العمل اليومي في الصحيفة، ويتقاسم مع موسي صبري مهام الرئاسة خلال الأسبوع، ويشرف على الطبعتين الأولي والثانية ويكتب اليوميات.

(وكان الشناوي يعرف أيضاً مدي تمسك نوار بالقيم الرفيعة وانه يحظى بحب جميع الزملاء ومن اشد الداعمين للرئيس وكان لا بد أن يبلغ نوار بقرار الرئيس الذي لا يحتمل التأجيل.)

وكان قدري أن يكون إبراهيم نوار أول من استقبلني عندما بدأت خطواتي في العمل وأنا طالب.

في السنة الثالثة قسم الصحافة بجامعة القاهرة، وقاد خطواتي كما كان يفعل مع الصحفيين الشبان بالجريدة وكان يحظى باحترام وحب الكبار.

كان زملائي في الدفعات الأولي من طلاب قسم الصافة، يتجهون في السنوات الأخيرة الي الصحف التي يختارونها للتدريب، حتى يتم تعيينهم بها عندما يحصلون على الليسانس، خوفاً من تعينهم في أماكن آخري على غير رغباتهم، فقد كانت قرارات التعيين تشمل جميع الخريجيين عقب أنهاء الدراسة.

توجهت للجهورية وطلبت مقابلة رئيس التحرير وما كاد (عم حسيب) الساعي الذي يجلس عند مكتبة أن يبلغه بأن أحد طلاب الصحافة يريد أن يلتقيه حتى وافق على الفور.

أحيانا تلتقي شخص لأول مرة في حياتك وتشعر أنك تعرفه منذ زمن بعيد. وهذا ما حدث معي عندما التقيت إبراهيم نوار استقبلني بابتسامة عريضة وبترحاب شديد كأنني صديق قديم لم يراه منذ فترة طويلة، وانا لم أتجاوز العشرين ألا بسنوات معدودة.

دعاني للجلوس وكان يطلع على بروفة   لأحدي الصفحات وأمامه سكرتير التحرير وينقل بقلمه خبر من جانب في الصفحة الى أخر ويغير عنوان لا يعجبه ويفرد صورة على عدة أعمدة بدلا من عمودين ويطلب من السكرتير التحرير أن ينفذ ملاحظاته ويعيد العرض

أتاحت لي فرصة انشغاله أن أتامل الرجل وأسلوب عمله انه يحمل وجه طفل ويحرص على أناقته رغم انه يقضي في الصحيفة ساعات طويلة وقرارته تتسم بالحزم.

التفت الى وجودي وسألني عن الدراسة بقسم الصحافة وعلق بان الأعلام أصبح علماً لا فهلوة وان أجيالكم ستصبح أوضاعا خاطئة وهي نبوءة لم تتحقق للأسف الشديد.

وتوالت عشرات الأسئلة عن الشباب ماذا يقرأ المواد التي يحرصون عليها وإذا ما كانت الصفحات المتخصصة تلقي عنايتهم أم لا يدخل أحد سكرتارية التحرير ويعرض البروفات على رئيس التحرير الذي نغمس في قراءة كل سطر ويراجع كل صورة وعنوان ويعمل قلمه برشاقة على الصفحات ليعاد تجهيزها.

يخرج سكرتير التحرير وتنطلق أسئلة نوار التي وجهها لي هل يهتم الشباب بالسياسية؟ وما مدي اهتمامهم بالفنون المسرح والسينما

أشرت في مقالي الأول من تلك السلسلة، أن نوار سألني عن القسم الذي أرغب في أن اعمل به، واقترحت القسم السياسي، وكان رائيه أن البداية يجب أن تكون في قسم القضايا والحوادث والحقيقة أن اختياره كان مفيداً ... لان وجودي بهذا القسم مكنني من التعرف على قاع المجتمع.

علمت أن نوار كان يتابع خطواتي ويسأل عن كشوف الإنتاج التي تتضمن ما أقدمه من مواد، لان أسمي لم يكن ينشر.

ويبدو وانه قرر نقلي الى قسم التحقيقات، كلفني بتغطية جراحة جديدة في القلب تجري لأول مرة في مصر أعددت التحقيق وقدمته لرئيس التحرير، وانتظرت أن أجده منشوراً في العدد الجديد ولم أستطيع النوم طوال الليل حتى أطلع على الصحيفة عندما تصل الى الموزعين وكانت صدمتي بالغة عندما لم أجده في الصفحات المخصصة للتحقيقات.

قررت يومها ألا اتجه للصحيفة اعتقاد مني أن التحقيق لم يعجب رئيس التحرير وتوجهت الى الجامعة التي انقطعت عنها عدة أيام لانشغالي في العمل وقررت إلا اشتري الجريدة حتى لا أثير أعصابي.

تلقيت اتصالاً من زميل في سكرتارية التحرير (الريس يريدك فوراً) تركت الجامعة واتجهت مباشرة الى مكتب رئيس التحرير.. الذي استقبلني بترحاب وسألني هل أطلعت على الصحيفة اليوم؟

وأجبته بالنفي، وذكرت له معاناتي في الليلة السابقة والوساوس التي داهمتني وأنني حضرت من الجامعة مباشرة وكل ما كان يهمني أن ينشر التحقيق ولن يحمل اسمي في كل الأحوال

وبدت على وجه الرجل علامات الدهشة وسألني هل أطلعت على الصحيفة أول امس ثم قدمها الى وعلى صفحتها الأخيرة التي لم أكن أطلعت عليها صور الموضوع وبضعة سطور من التحقيق والصفحة الأخيرة مخصصة للمواد المصورة وكانت المفاجأة الأكبر أن اسمي على الموضوع ثم جاءت مفاجئة تالية إنه في اليوم الثاني تم نشر التحقيق بالصور على الصفحة كاملة وان اسمي وضع في برواز وسط الصفحة ثم جاءت ام المفاجآت ...مقال رئيس التحرير بعنوان "ليس لبني كرامة في وطنه" .... يقول " وقفت طويلاً أمام تحقيق متواضع في الصفحة الأخيرة من الجمهورية ، كتبه الزميل رياض سيف النصر، عن عملية جراحة في القلب أجراها الدكتور عبد الرحمن فهمي رئيس قسم جراحة القلب والصدر بكلية طب عين شمس ولم تكن العملية هي التي استدعت انتباهي ولكنها سطور جاءت في أخر التحقيق قال فيها الزميل أن الدكتور عبد الرحمن فهمي أول من قام بنقل قلب حيوان الى آخر، أجري هذه العملية عام 1964 في مستشفيي الدمرداش واستطاع القلب المريض أن يعيش يوماً واحداً بعد انتقال القلب إليه.

لمهم أن العملية أجريت عام 1964، دون أن يشعر بها أحد ودون أن ينال الطبيب الذي أجراها كلمة تقدير، وهي تجربة رائدة بغض النظر عن نتائجها

(ليس لأنه لا كرامة لبني في وطنه)

هذا مثال واحد لمدي ما كان يشعر به إبراهيم نوار من مسئولية تجاه الشباب وكان مكتبه مفتوحاً أمام الجميع يستمع وينصح ويساعد في حل المشاكل الخاصة ويعمل 14ساعة يومياً بينما رؤساء التحرير الأخرين في غياب كامل.

توطدت علاقتي برئيس التحرير واعتدت على رؤيته يومياً ولو لدقائق معدودة ولوحظت انه يبدأ يومه بالاطلاع على نسبة توزيع الصحيفة، وعن نوعية القراء والمناطق التي يزداد فيها الأقبال على الصحيفة والمحافظات التي يرتفع بها التوزيع والاهم أراء القراء في المواد التحريرية لذلك كان يشرف بنفسه على باب بريد القراء الذي ينشر يومياً على صفحة كاملة وكانت خطابتهم تنقل الى منزله في صناديق ويقرأ كل رسالة ويرد عليها.

وربما من هذا الجانب بدأت مشاكله فالرجل كان يري انه لا فائدة من صحيفة لا يقرأها القارئ وانه يجب على المسئول عن التحرير أن يكون على تواصل مع القراء وان يلبي احتجاجاتهم وان يقدم لهم المواد الصحفية التي تناسبهم كتب في عاموده كلمة حق

أن نسبة العمال والفلاحين من قراء الجمهورية تزيد على 60% بينما 40% من قراء الجمهورية من المثقفين والطلبة.

ويستنتج أن هؤلاء لا يهتمون بالموضوعات الجادة وليس الصوت العالي!

بينما كان هناك اتجاه آخر داخل الصحيفة من أصحاب الصوت العالي الذين يحسبون أنفسهم علي الثورة وينادون بان دور الجمهورية اشعال الوعي الثوري وليس السعي وراء التوزيع ولا يكتفون بالتعبير عن تلك الآراء في مقالتهم إنما للتقارير التي يعدونها للأجهزة ويفخرون بإنهم يحافظون على الثورة وهؤلاء لم يكن لديهم أي قدر من التسامح ومراعاة حقوق الزمالة والسعي وراء المناصب كان شغلهم الشاغل وجاءت أزمة أبراهيم نوار التي وصفها موسي صبري زميله في رئاسة الجمهورية وقتها، بانها من نوع خاص لم تحدث في تاريخ الصحافة المصرية وأنها كانت مفاجأة محزنة مضحكة بالنسبة للجميع، كنا مقتنعين بما لا يقبل الشك أنها أسباب كاذبة ملفقة تلقي الرئيس عبد الناصر تقريراً بان إبراهيم نوار عضو في جمعية سرية لتبادل الزوجات والأزواج وان أعضاء هذه الجمعية هم من الأزواج والزوجات المنحلين الذين يقصدون اجتماعات وسهرات مبتذله يختلط فيها الحابل بالنابل بلا أي معايير أخلاقية ووصف هذا التقرير إنه مبتذل هذا صحيح لان سمعة إبراهيم نوار وأخلاقه فوق الشبهات والسيدة الفاضلة زوجته أم ممتازة وربة بيت وليست من النوع الذي يحضر الحفلات والسهرات وكان معظم الصحفيين في الجمهورية يعتبرونها الأم المثالية ويعرفها جيداً مصطفي أمين الذي أدلي بشهادته أمام عبد الناصر وقام وجيه أباظة بالدفاع عن الرجل ومحاولة أقناع الرئيس بتلك المؤامرة السخيفة ولكن الأمر احتاج الى عام كامل حتي يعترف الرئيس بان التقارير كانت كاذبة ويعاد أسم إبراهيم نوار مرة آخري الى برواز رؤساء التحرير وخلال تلك الأزمة لم يتوقف نوار عن إدارة الجريدة ولم يكن مقتنعاً بوجود أسمه ضمن بروزا رؤساء التحرير، فقد كان يرفع دون سبب ودون أن تتغير مسئولياته والمدهش أن عبد الناصر كان يعرف نوار جيداً وقد أختاره للأشراف على إصدار جريدة الجماهير السورية خلال فترة الوحدة بين البلدين وكان يتابع تغطية للأحداث والمؤتمرات المحلية والعربية والعالمية واعجب الرئيس بكتابه رحلة سلام مع عبد الناصر وكانت مشكلة نوار التي فشل في أقناع الذين يخالفونه الرأي إنه لا جدوي من صحافة ثورية لا يقرأها الناس إنما الجدوى كل الجدوى لصحافة مهنية تقدم أفكار الثورة لم يتوقف نوار عن إدارة العمل بالجمهورية منذ عام 1969حتي وفاته عام 1973 ولم يترك لورثته ثروة في البنوك ولم يتربح يوماً من عمله الصحفي.

والسؤال هل توقف كتابة التقارير عن العداء لنوار أحدي كتاب التقرير كان يثق في الكاتب الصحفي الكبير محمد العزبي ويعرض عليه التقارير التي يكتبها وأحدها عن نوار وصفه بإنه من قيادات الإخوان المسلمين وعندما أبدى العزبي اندهاشه عن تلك التهمة التي لا يصدقها أحد أجاب الرجل بان الموضة الإن اتهام الصحفيين بالأخوانة ولا أظن أن محاولة العزبي منع كاتب التقرير من تقدميه قد نجحت

وللحديث بقية