هيرمس
شايل جيل

محاولة للفهم

نصف قرن في بلاط الجمهورية (6)

في 11مارس 1975 أثناء مفاوضات السادات مع هنري كيسنجر، بشأن توقيع فض الاشتباك الثاني، قرر أن ينقل مصطفي بهجت بدوي رئيس مجلس إدارة دار التحرير ورئيس تحرير الجمهورية الى الأهرام كاتباً متفرغاً.

ويذكر صلاح عيسى في كتابه شخصيات لها العجب " أن محمد حسنين هيكل الذي كان قد ترك الأهرام سأل السادات عن السبب فقال: 

مصطفي بهجت ما ينفعنيش لا هو ولا الشيوعيون الذين معه، أنا داخل معركة مع منظمة التحرير الفلسطينية ومع سوريا وليبيا.
اتخذ السادات قراره بالتخلص من مصطفي بهجت، بعد أن أعيته الحيل في محاولة تطويع هذا الصحفي الذي وصفه أكثر من مرة بان (رأسه ناشفة)

كان هناك أكثر من سبب يدعو الرئيس الى التمهل في أصدر قراره في مقدمتها أن الضابط السابق بالقوات المسلحة وأحد كوادر الصف الثاني من الضباط الذين قاموا بثورة يوليو، ومن أخلصهم لمبادئ الثورة.. وأكثرهم حرصاً على استكمال أهدافها.

ويعرف السادات أيضا أن بدوي لا يخشى في الحق لومة لائم.. وانه لا يسعي وراء المناصب وموقفه من دفعته في القوات المسلحة (1948) حينما قام بمتابعة كل منهم وكشف في كتابة كيف بدأوا وكيف انتهوا لا يقدر عليه سوي الشجعان.

اختلف الرجلان حول العديد من القضايا الرئيس أراد أن يضع لنفسه سياسة جديدة تختلف عن سياسة الرئيس الأسبق عبد الناصر، وأعلن سياسية الانفتاح التي وصفها كاتبنا الكبير/ أحمد بهاء الدين بأنه (سداح مداح) وأعلن مقولته ذائقة الصيت من لا يغني في عهدي لن يغتني أبداً) وهي المقولة التي فتحت شهية بعض الأفاقين من الذين يقدمون أنفسهم على أنهم رجال أعمال.. الى أغراق البلاد في الفساد.

وطالما حذر بدوي من تلك السياسة الخرقاء، التي تقود البلاد نحو الخراب، ويذكر بمبادئ العدالة الاجتماعية التي وضعتها ثورة يوليو في مقدمة أهدافهاـ ويرد بحسم على الكتاب الذين يهاجمون عبد الناصر ويدعون بانه (جلب الفقر لمصر)

وبينما استبدل الرئيس السادات العداء لإسرائيل، الى الدول العربية خاصة سوريا وليبيا ومنظمة التحرير، كان مصطفى بهجت يقف في طابور آخر، يذكر الجميع بالجرائم التي ارتكبتها إسرائيل مع الشعوب العربية ولا يخفي عدائه للكيان الصهيوني بقدر إيمانه بالقومية العربية والارتباط المصيري بين مصر والأشقاء العرب.

وبينما يقرر الرئيس الأفراج عن السجناء من جماعة الإخوان المسلمين الذين صدرت ضدهم أحكاما قضائية، ويترك لهم الحبل على الغارب لمواجهة التيارات المدنية الأخرى، واستخدام العنف ضدهم.

لم يخف مصطفى بهجت انزعاجه من تلك السياسة، ويؤكد انه لا أمان لتلك الجماعة التي احترفت التنكر لوعودها، ويؤكد وكأنه يقرأ المستقبل إن هذا القرار خطر على السادات نفسه وعلى مصر كلها.

واشتد الخلاف عندما طلب السادات من بدوي التخلص من جميع الصحفيين اليساريين بنقلهم الى وظائف أخري بعيداً عن الصحافة، وهو ما رفضه بشدة وانه لن يوقع على قرار يستبعد فصيل وطني يعشق تراب مصر.

عبر مصطفي بهجت عن مواقفه من خلال مقالات بعنوان (تعالوا الى كلمة سواء) يفند خلالها الآراء التي تدعو الى القطيعة بين السادات وعبد الناصر وينتقد بشدة سياسة الانفتاح والعداء للعرب والثقة في إسرائيل والترحيب بجماعة الإخوان المسلمين.
وبذلك أصبح التوافق بين الرجلين مستحيلاً، وأدرك الصحفيون في الجمهورية إن موعد رحيل رئيس تحريهم قد اقترب.

لم يترك الطامعون في وراثة المناصب الفرصة تمر، تلاقت مصالحهم مع بعض الصحفيين الذين وجدوا في سياسة الانفتاح أقصر طريق لتحقيق طموحاتهم في الارتباط برجال الأعمال الجدد والحصول على الأرضي التي تم التفريط فيها وبيعت بتراب الفلوس، ومنهم من تحول الى سماسرة للتوسط في بيع مصانع القطاع العام بثمن بخس.

وكانت البداية إصدار منشورات تتوجه أبشع الاتهامات لمصطفي بهجت والكتاب الكبار الذين أيدوه 

صدرت المنشورات بتوقيع (الصحفيون الوطنيون) بدار التحرير يعتبر بدوي زعيماً للتنظيم الشيوعي الذي يعمل بالجمهورية ومنهم من يقبض مرتبات شهرية مثل كامل زهيري 500جنيه إسترليني شهرياً، وكذلك عوده الذي يحصل على نفس المبلغ، أما محمد العزبي فلا يحصل سوي على 200جنيه إسترليني شهرياً، وصلاح عيسى 150 جنيه في الشهر.

وتشمل القائمة حسين عبد الرزاق، وعبد العزيز عبد الله وفتحي عبد الفتاح ومصطفي كمال وعبد الحميد عبد النبي وعبد العال الباقوري ومحمد أبو الحديد.

ولم يخلو هذا الزمن الصعب من مسئولين شرفاء مثل الدكتور كمال أبو المجد وزير الإعلام وقتها، الذي أعلن أنه راجع المرتبات والعلاوات في الجمهورية، وتأكدان أهل اليمين كذبوا عندما زعموا أن مصطفى بهجت يغدق الأموال على كتاب اليسار باد أن القوائم أكدت إن اليساريين في الجمهورية يعملون، بينما يحصل اليمنيون على العلاوات والمرتبات.

وقد تصاعدت الحملة الى حد أن مدير تحرير العدد الأسبوعي ممدوح رضا، كان يطلب من رئيس التحرير أن يوقع على بروفات المقالات التي يكتبها، وكان الرجل يوقعها ومعها عبارة "لتقديمها للأجهزة التي يعملون معها"

واجه الرجل التحدي بشجاعة مطلقة ودافع عما يؤمن به وهو يدرك أن الثمن سيكون غالياً ولن تتوقف على تركه رئاسة المؤسسة التي كان زاهداً فيها 

ولم تقتصر الحملة ضد الصحفيين الشرفاء على تلك المجموعة من الصحيفين الذين كانوا يسجنون عبد الناصر وسرعان ما انقلبوا عليه ترحيباً بالقادم الجديد وبحثاً عن الغنائم.

امتدت الحملة الى مقالات تنشر في الصحف، وتتحدث عن سيطرة الماركسيين على دور الصحف في مصر، لأنهم يقودون ثلاث مؤسسات الأهرام أحمد بهاء الدين، روز اليوسف عبد الرحمن شرقاوي، الجمهورية مصطفى بهجت بدوي.

وتتنافس كتاب التقارير لاختراع وقائع لم تحدث وتقديمها للأمن للأضرار بقيادات تلك المؤسسات واستعداء السلطة عليهم، بل طالبت بعض المنشورات بشنق الكتاب اليساريين وليس مجرد فصلهم.

وقصة اللقاء بين بهاء الدين وممدوح سالم وزير الداخلية وقتها ذكرها بهاء في كتبه في أكثر من مقال.

حاول بهاء أن يقنع سالم بان التقارير التي تتلقاها أجهزة الأمن ليست دقيقة وتتضمن مبالغات وبعضها مبني على ضغائن شخصية.

اعترف سالم لبهاء أن كل التقارير التي تتلقاها الأجهزة ضد الصحيفين، أنما يكتبها صحفيون منكم فرد بهاء هذا طبيعي أفادت التقارير عن الطلبة يكتبها طلبة، وهكذا في كل مجال، ونحن نعرف الصحفيين الذين يحترفون كتابة التقارير السرية لأجهزة الأمن ضد زملائهم، ولكنكم لو تحريتم عنهم قبل أن تأخذوا بكلامهم لعرفتم انهم من أرادا أنواع الصحفيين الفاشلين المملوءة قلوبهم بالضغينة ضد كل صحفي ناجح.

عقب الوزير قائلاً: نحن نعرف ذلك ولكن هل تتوقع من صحفي مستقيم حسن الخلق ابن ناس ناجح في عمله أن يكتب تقارير للمباحث نظير اجر وأضاف "هات لي عشرة من هؤلاء ولو كانوا خريجي أوكسفورد يرضون أن يكتبوا تقارير للمباحث وسوف نستغني فوراً عن النوعية التي تكتب التقارير الآن.

لم أقترب من مصطفى بهجت خلال الفترة الأولي لرئاسته دار التحرير وتحرير الجمهورية والتي لم تستمر طويلاً (65-66) ولكن علاقتي به تعمقت خلال الفترة الثانية التي جاء فيها الينا، (71-75)، جندت في صفوف القوات المسلحة عقب هزيمة يونيو، وحصلت على فرقة مراسل حربي وألحقت بإدارة التوجيه المعنوي المسئولية عن أصدر الصحف وعقد الندوات والتصدي للحرب النفسية التي يشنها العدو وكان دورنا الإقامة مع الجيوش وإعداد موضوعات تقرب حياتهم الى المجتمع المدني.

عايشت أبناء مدن القناة وارتبطت بعلاقات عميقة معهم، ورصدت معاناتهم في غياب الأحباب والأبناء .... وصعوبة الحياة تحت القصف.

وأرسلت الحلقات الى رئيس تحرير الجمهورية الذي تحمس لها وقبل أن يكتب مقدمة لصحفي صغير لم يمض سنوات على عمله في دنيا الصحافة.

وقد حرصت طوال الحلقات السابقة (نصف قرن في بلاط الجمهورية) إن اغلب كل ما هو عام في أحوال الصحافة عن الجانب الشخصي. لذلك ترددت في أن أقدم بعض السطور من المقدمة التي كتبها بهجت بدوي عن كتاب "ناس من مدن المواجهة" ورأيت أن تلك السطور تقدم صورة واقعية لما كان يحدث في الصحافة المصرية، عندما كان يرأس تحرير إصدارتها صحفيون محترمون 

يقول مصطفي في مقدمته لكتاب 
 لم يكد بيد مؤلف هذا الكتاب حياته الصحفية، ويقضي بها سنوات قليلة حتى جند بالقوات المسلحة، وعاش سنوات الدفاع النشط والردع والاستنزاف والمواجهة الشاملة كاملة.

عاش مقاتلا يحمل القلم والمدفع، كما يتحمل المعاناة، ويتجمل بالصبر العمل على النصر، ومن هنا كانت تجربته من التجارب الفريدة والمفيدة حقاً.

وإذا كنت اتحدت عن مولد كاتب صحفي فأنني أعي الكاتب الصحفي النابض المؤثر، هذا اللون من الكتاب الصحفيين هو الذي يحتفي به هو الذي تشرق حياتنا ببزوغ نجمه فلر بما كثرت الأسماء، ولكن الميلاد الحقيقي والبقاء هو للصدق والنبض والتأثير.

يضيف بدوي
كانت أول حلقة من حلقات (ناس من مدن المواجهة)

هي بالذات التي لفتتني بل حفزتني بينما كنت أقرأها، بعد أن عهد الي بها (رياض) لا يبدي الرأي في نشرها وما كدت أتابع قراءتها وانتهي منها حتى وجدتني مبهوراً، أو كمن وقع على كنز ثمين، هذا لون الكتابة الصحفية الأدبية الوطنية القتالية لها نكهة متميزة وممتازة.

ثم يواصل رئيس التحرير المحترم

تحمست لما كتب، وجدت هذا الأخ الصغير كبيراً نضج فجأة بغير زيف ولا ادعاء كبير بلا تطاول، ولا طرق انتهازية ملتوية، وكان أن حصلت لحلقته عن الناس في مدن المواجهة صدارة فهم في ذاتهم صدارة ولحسن وصدق العرض صدارة 
عندما أصدر الرئيس أنور السادات أسماء الصحفيين الذين قرر نقلهم الى العمل في وظائف غير صحفية.

قال مصطفى بهجت بدوي لزوجته معبراً عن سعادته البالغة بهذا القرار: 
لو خلت القوائم نت اسمي كنت سأشعر بالمهانة.

وللحديث بقية.