هيرمس
شايل جيل

محاولة للفهم

نصف قرن من بلاط الجمهورية (4)

استدعي الشاعر الكبير ورئيس تحرير الجمهورية "كامل الشناوي" مندوب الصحيفة في الرئاسة، وعنفه لانه لم يتابع زيارة ضيف الرئيس عبد الناصر الكاتب الروسي "تولستوي" وطالبه بإجراء حديث صحفي معه.

انطلق المندوب الى الرئاسة ولم يجد أسم "تولستوي" وبين الذين استقبلهم الرئيس، وعندما عاد الى رئيس التحرير لبليغه، قابله منصافةبعاصفة من التوبيخ واتهمه بالتقصير ، وأكد له ان الزيارة سرية وعليه أن يسأل عن الضيف في الفنادق

وكرر الزميل المحاولة التي كان مصيرها الفشل، لان "تولستوي" رحل عن دنيانا من زمان.

اخذ كامل الشناوي يروي الحكاية لكل أصدقائه بالتليفون ويجعلها حديث السهرة التي تجمعه بكبار الصحيفين والفنانين والرموز الثقافية.. وأصبحت بين عشية وضحاها حديث الساعة في أوساط المثقفين.

لم يتوقف كامل الشناوي عن التندر بعدم كفاءة الصحفيين في الصحيفة التي يرأس تحريرها، واستقبلته بترحاب يستحقه عندما جاء اليها عام 59 لتصحيح وضع ظالم نتعرض له، وهو الاتهام بأنه كان يحصل علي أموال من الحكومات السابقة على ثورة يوليو في بند "المصاريف السرية" وقد استمرت تلك التهمة الظالمة تلاحق الرحل أكثر من عام، حتي برء منها ...وكان تعيينه رئيساً لتحرير الجمهورية بمثابة عربون المصالحة وكان رئيس التحرير الوحيد الذي لم يتغير طوال ست سنوات ...بينما شمل التغير الاخرين .

لم نتسبب تلك المداعبة الثقيلة في التأثير فقط على سمعة الزميل الصحفي الذي لم يكن يتابع الادب الروسي !! وأن كان مني أفضل المحررين بقسم الاخبار وأصبح رئيساً له لسنوات طويلة.

وإنما ساهمين إيضاً في المظالم التي تعرضت لها الجمهورية وجاءت هذه المرة من قيادتها الذين استقبلوا من العاملين بها بكل الترحاب، وتوقعوا ان يمثلوا إضافة حقيقة تساهم في انتشالها من ازماتها وحدث العكس تماماً لتوجيه الاتهامات الظالمة للعاملين بها.

لم يتوقف كامل الشناوي عن التندر بإنعدام كفاءة الصحفيين العاملين بالجمهورية، ولا شك ان الشاعر الكبير الذي لقبه العقاد بأمير الشعراء، كان يستحق هذا اللقب عن جدارة.

ولكن الصحفي كامل الشناوي قال عنه صديقه المقرب وأحد كبار الصحفيين مصطفى امين"ان كل من يجلس معه عليه ان يحمل جهاز تسجيل كي يسجل كل ما يقوله .. أقواله روع كثيراً من سطوره.

وقال عنه موسي صبري " انه كان مقل في الكتابة...بطئ في تسطير الكلمات ....ولا يكتب الا في الدقيقة الأخيرة.

وفي كل الأحوال لم يمارس دوره في إدارة التحرير واكتفي بكتابة المقالات " ..ورغم ذلك طالما اعد المقالب" التي تثبت عدم كفاءة الصحيفين العاملين بالجمهورية.

استقبلت الجمهورية " الصحفي الكبير موسي صبري ..مرتين الاولي عام 59 عقب خلافه مع مؤسس الاخبار وصاحبها مصطفي امين حول تعيين الأستاذ/ أحمد بهاء الدين رئيساً للتحرير ولم يكن من العاملين بالأخبار واستبعاد تلميذه الذي كان مسئولاً عن أصدار الصحيفة لسنوات... موسي صبري.

فشلت محاولات موسي لأقناع/ مصطفي أمين بانه الاحق برئاسة التحرير، ولم يجد أستجابة، وحاول التواصل الى حلول وسط ان يضع اسمه مع / بهاء على تزويد الصحيفة كرئيس للتحرير وفشلت تلك المحاولة أيضاً .. وأقترح مرة ثالثة ان يوضع اسم/ بهاء مع مصطفى أمين على أخبار اليوم ورفض وأخبره بان الرئيس عبد الناصر لا يريده وعندما تأكد موسي من عدم صحة هذا الامر...وافق علي عرض من صلاح سالم المشرف على الجمهورية : ان يتولى رائاسة تحريرها.

أستقبل موسي من العاملين بالجمهورية استقبال الفاتحين فالرجل مشهود له بالكفاءة المهنية، وانه لن يقبل بأن يزين اسمه ترويه الصحيفة ولكنه يعرف كيف يعد (طبخة) صحفيهتثير لعاب القراء ..وترفع من توزيع الجريدة وهذا ما حدث بالفعل.

كان موسي يعمل 14 ساعة كل يوم ويوزع المهام علي الأقسام ويشجع الصحفيين الشبان ويتبين الراغبين في العمل ويدفهم للتقدم

وربما كان دافعه ان يثبت لمصطفى أمين ، أنه قادر على المنافسة وان الاخبار خسرت عندما تخلت عنه ...وعاد الى الاخبار بعد عامين.

المره الثانية عام 68، جاء موسي الى الجمهورية على غير رغبته، عندما صدر قرار من على صبري الأمين العام للأتحاد الاشتراكي مالك الصحف في تلك الفترة ... بأن ينقل موسي الى الجمهورية " ولم يحدد له عمل، وقد وصف موسي القرار بأنه مهين .

 كان موسي يغطي محاكمة صلاح نصرو شمس بدران وغيرهم الذين وجه اليهم الاتهام بالاعداد لانقلاب على الحكم... وأشار الى ما دار في الجلسات حول امتلاكهم كميات من العملات الصعبة وأموال الدولة التي كانوا يضعونها من بيوتهم ... وان المشير عامر حصل من ملك السعودية على عملات ذهبية لا يعرف احد مصيرها .

كان موسي يختم مقالاته بعبارة ( هكذا كانت تحكم مصر وما خفي كان أعظم)

وتصادف عقد مؤتمر للصحفين العرب في القاهرة، والقي عبد الناصر كلمة أمام المؤتمر، قال فيها انه يناصر حرية الصحافة، ولكنه لا يقبل أن تحول الصحافة قضية المؤامرة الى فساد في الحكم كما فعل رئيس تحرير الاخبار.

وعلي الفور صدر القرار المهين على حد تعبير موسي صبري.

من مادتين ... ان ينقل الى الجهورية وأن ينفذ القرار ابتداء من اليوم.

وفى هذ الزمن ..كان يكفي أن يغضب الزعيم علي أصدارات يبتعد عنه الأصدقاء.. والاقارب والابناء

نفذ موسي القرار في اليوم التالي ... وكانت المفاجئة قدر الحفاوة التي تلقاها من رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير/فتحي غانم.

يقول موسي صبري استقبلني رئيس مجلس الإدارة فتحي غانم احسن استقبال وجمع مجلس الإدارة وقال في الاجتماع ان انضمام موسي صبري الى اسرة الجمهورية تقوية لها ومكانه الطبيعي هو مقعد رئيس مجلس الإدارة ونحن نرحب به كل الترحيب.

ويواصل موسي صبري.

اخليت حجرة لي وطلب مني فتحي غانم ان أبحث في الأسواق عن طاقم المكتب الذي يعجبني لفرش مكتبي .. وقد فعلت !

حدث هذا بينما التعليقات التي سبقت مجيئه للجمهورية ان الرئيس شخصاً غاضب أشد الغضب على موسي صبري وانه ممنوع من الكتابة... وان اسمه لا يجب ان ينشر في الصحيفة.

حدث هذا الاستقبال من مجلس الإدارة بينما رئيسه/فتحي غانم يقف في خندق آخر ...عن الخندق الذي يقف فيه موسي صبري.

والأخطر ان رئيس التحرير فتحي غانم، طلب مقالاً من موسي... وحاول نشر اسمه ... وبالطبع تم رفع الاسم من المطبعة .. وأبلغ ان تلك المحاولة لا يجب ان تتكرر.

لم يكن فتحي غانم على علاقة جيدة مع المشرف علي الجمهورية الذي اختاره الرئيس عبد الناصر، علي صبري

عندما تولي صبري المسئولية عام 1966 هرول العديد من الصحفيين الذين يبحثون عن مصالحهم الشخصية للقادم الجديد وكان طبيعى ان يسبقهم رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير فتحي غانم ... وهو ما لم يحدث.

ولاحظ القادم الجديد ... ان مقال رئيس التحرير لا يتجاوز مائتي كلمة واختار لها نهاية آخر عامود في الصفحة الاولي وكانت مقالات هادئة تتسم بالعقلانية ... بينما كان علي صبري يكتب مقالات نارية " تنشر  على أربعة أعمدة في الصفحة الأولي لتحشد الجماهير الي الاشتراكية والحق يقال ان فهمي يصعب على القارئ المتخصص فما بالك بالقارئ العادي الذي لم يعتد على قراءة تلك المقالات المطولة ولم تتوقف محاولات الوقعية بين فتحي غانم الذي لم تحركه تلك التصرفات الصغيرة، وبين علي صبري الذي كان يتحدث عن رئيس التحرير بأسلوب غير ودي... وبصفة أنه آخر من يعلم وانه الرجل الذي يعيش في برج عاجي وكانت تللك التعلقات تصل رئيس التحرير ... ولا تلقي سوي الاشمئزاز ولا بد ان اللقاء الحميم بالصحفي المغضوب عليه  من عبد الناصر تم استغلاله للإساءة للرجل الذي أحترم نفسه ولم يقبل الوقوف في طابور المنافقين...فتحي غانم

وكنت احد الذين اثار موسي صبري اعجابهم ..بإقباله على العمل منذ أول يوم وحرصه على ان يقدم العديد من الأفكار الرائعة مثل ملحق المرأة والفن " الذي ساهم في تطوير الصحيفة وزيادة توزيعها.

كان باب مكتب موسي صبري مفتوحاً أمام الجميع وتمكن خلال أيام معدودة من أكتشافالصحيفيين الذين يمثلون القوي الضاربة في كل قسم من الأقسام وان تكليف كل فرد يومياً بإعداد الموضوعات... وان يعد بنفسه العديد من الموضوعات الجذابة وهو يعلم ان اسمه ممنوعاً من النشر.

وكان يتولى مسئولية إصدار الصحفية إصدار الصحيفة ثلاثة أيام في الأسبوع، ويشاركه إبراهيم نوار في إصدارها خلال الأيام الباقية وكانت تجربة موسي صبري التي لم تستمر سوي عام ونصف من أبريل 68 – حتي سبتمبر 69 ثمينة وأثبت خلالها ان الجمهورية قادرة على منافسة الاهرام والاخبار، وما يحول دون ذلك الذين يشرفون عليها منذ بداية صدروها وكنت احد الذين استفادوا من الرجل وقدرته على توليد الأفكار والصياغة التي تتعارض مع الرقابةـ تقدم له التحقيق الصحفي فيرفع جملة ويوصلها بجملة آخري فتصبح صالحة للتمرير على الرقابة ونقترح له فكرة موضوع فيطورها ويجعل منها قضية قابلة للنقاش .. ويجهد نفسه في البحث في الأرشيف الصورة التي تدعم الأفكار الواردة في التحقيق ويعد الى سكرتارية التحرير البروفات لتطوريها وفق رؤيته.

أعجبني في موسي صبري عدم استبعاد من يختلفون معه سياسياً، خاصة من يصفهم بالشيوعيين رغم كراهيته الشخصية لكل من يدافع عن الاشتراكينأوحتي الناصرية كان كل ما يهمه ان تكون الفكرة جيدة بصرف النظر عن الذي قدمها.

ولم يعجبني نكرانه لأفعال الصحيفة التي أستقبلته أكثر من مرة في ظروفه الصعبة ووفرت له الدخل الكبير .. وان يمارس عمله الذي يحبه.

ظلم موسي صبري الجمهورية في مقالاته وكتبه قال: كنت اعتبر أن رئيس تحرير الجمهورية الايوازي في مكانته الصحفية اى محرر في الاخبار

ويقول الكفاءات في الجمهورية محدودة وتب من المؤمنين – خطأ أو صواباً – بأن الصحفي الذي لا يتخرج من أخبار اليوم... لن يكون صحفياً ناجحاً.

ويقول كيف أترك الاخبار الي الجمهورية ؟

كيف اترك القصر الكبير الى بيت صغير؟

كيف اترك اسرتي الى اسرة غريبة عني؟

نسي الصحفي الكبير موسي صبري، ان الجمهورية آلم تسعي خلفه انما جاءها مرة مستبعداً من صاحبها مصطفى آمين الذي فضل عليه/ أحمد بهاء الدين .. واحسنت الجمهورية استقباله

وفي المرة الثانية .. جاء مطرود من الاخبار بقرار مالك الصحف وقتها للأتحاد الاشتراكي بعد أن هاجمه الرئيس عبد الناصر .. ما يعني أنه مغضوب عليه .. ومنحته الجمهورية الثقة التي لم يكن يحلم بها

والغريب انه لم يكن مطلوباً من الرجل .. ان يسئ للجمهورية وان يساهم في المظالم التي تعرض لها من الجميع الذين اصدروها والذين تولوا رئاسة تحريرها .... ومن اختارتهم الدولة لتولي الاشراف عليها.

وللحديث بقية،،،،