هيرمس
    مصر
  • 29℃ القاهرة, مصر

رئيس مجلس الإدارة

طارق لطفى

رئيس التحرير

أحمد سليمان

(معاً للمستقبل)

الاعتذار ..من شيم الكبار!!

العصمة للأنبياء وحدهم؛ أما البشر فهم يخطئون بطبيعتهم ؛ وهم كما قال نبينا الكريم : «كل بني آدم خطاء، وخير الخطّائين التوابون» (رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم)..فإذا كان الأمر كذلك فليس أقل من أن نعتذر إذا أخطأنا فذلك أول خطوات الإصلاح الحقيقي..وقد رأينا كيف اعتذر مدرب تشيلسي الإنجليزي توخيل لمدرب توتنهام دون تردد؛ فالاعتذار ثقافة في أي دولة متقدمة؛ يفعله المواطن العادي كما يفعله المسئول..دون أن يجد في ذلك غضاضة ، بل يرى ذلك أقرب طرق الإصلاح وتصحيح المسار لأي قرار أو سلوك.
ثقافة الاعتذار فريضة غائبة في مجتمعاتنا؛ فالبعض يراه نقيصة لا يصح أن تقترن بشخصه، والبعض يراه كبيرة لا يجوز اقترافها في حق ذاته ، و آخرون يرونه تنازلاً لمن هم دونهم حتى ولو كانوا أصحاب حق واضح..لكن أليس الرجوع للحق خيرًا من التمادي في الباطل..ثم ما شعورهم إذا أخطأ في حقهم من هم فوقهم أو أعلى منهم مكانة..ألا يسبب لهم ذلك غصة ومرارة في حلوقهم فكيف يرضون لغيرهم ما لا يرضونه لأنفسهم..؟! 
الاعتذار ليس ضعفاً ولا استسلاماً بل هو من شيم الكبار والنبلاء وهو ضرورة لازمة لإشاعة التسامح والتعايش ورسول المودة والمحبة والتآزر، وهو رجوع لقيم الحق وتقدير الآخرين، وبه تمضي الحياة بلا منغصات ولا عداوات ولا أحقاد ولا ضغائن.
إذا أخطأت في حق غيرك فبادره  بقولك "أنا آسف"، وسوف تجد ما يسرك، ستجد في نفسه رضا، وعلى وجهه ابتسامة، وفي معاملته ليناً وتراحمًا..ولن يقلل ذلك من شخصيتك أبداً بل تضيف إليها قوة وحباً لا يقدر بثمن.
إذا غابت ثقافة الاعتذار عن مجتمع فاعلم أن البديل هو الغرور والكبر والاستعلاء والتنافر والخصام ؛ والكبر هو بطر الحق وغمط الناس.. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنـًا ونعله حسنـًا ، فقال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بَطَرُ الحقِّ وغمط الناس" (رواه مسلم).
البعض يعتقد خطأ أن الاعتذار عن الخطأ ضعف ووهن، ودليل انكسار وهزيمة ويتخوف أن يرميه البعض بالتراجع والاستسلام، وهذا اعتقاد خاطيء لا يليق بصاحبه إذا كان ممن لديهم ضمير؛ فالله تعالى لا يقبل توبة من عبده إلا إذا أقر بالذنب أولا ثم ندم عليه ثانياً ثم عزم عزماً أكيداً صادقاً أنه لن يعود إليه مرة أخرى، وأخيراً يرد الحقوق لأصحابها إذا ارتكب مظلمة في حق أخيه واستسمحه في ذلك..فهل يليق أن يضن أحدنا بالاعتذار بعد كل ذلك..؟!
الرجوع للحق فضيلة، والاعتذار عن الخطأ قوة لا يقدر عليها إلا من كان واثقاً بنفسه قادراً على محاسبتها وردعها عن الشرور، وهو شجاعة لا تصدر إلا عن شخص نبيل.
الاعتذار في بعض المجتمعات جزء من ثقافتها الفكرية ومقوماتها الحضارية؛ ومن ثم فهم يحرصون على غرسه في نفوس الصغار منذ نعومة أظفارهم إلى حد جعلهم يقرنون الصفح عمن يخطيء أو تخفيف عقوبته رهناً بتقديم اعتذاره، وعندما تخطيء النخب في هذه المجتمعات فإن أول المطالب هو دعوة المخطيء للاعتذار عن خطئه في حق الدولة والمجتمع وحتى الأفراد..والاعتذار هنا ليس كلمة تقال في زحام الكلام، ولا تبريراً للخطأ والبحث عن مخرج من ورطة بل هو اقتناع تام بأن خطأ وقع ووجب الاعتذار عنه، و تصحيحه في الحال، وليس معنى أن تعتذر أنك سييء بل العكس إنك جيد ومرن ولديك رغبة حقيقية ونية صادقة في الإصلاح.
الاعتراف بالخطأ فضيلة، والاعتذار عنه فضيلة أخرى، وكلاهما فضيلة تعزز روابط الألفة والمحبة بين البشر، وهما في نفس الوقت وسائل تمنعنا من فقدان من نحب؛ فالاعتذار بلسم يشفي كثيراً من الجروح ويمنع تطور الخصومة إلى جفاء وعداوة وبغضاء.
البعض يعتقد أن من البشر من لا يستحق الاعتذار، بينما لا يتردد البعض في الاعتذار لشخص غريب أو صديق..وبعض الناس لا يتردد في بذله صاغراً لمن هم فوقه أو لجهة نافذة يخشي بأسها لكنه يضن بكلمة طيبة لأقرب الناس إليه وهذا تناقض صارخ يعود لأحد أمرين : إما استعلاء وتكبر وإما أنه يتوقع من الطرف الآخر أن يتفهم الموقف ويسامحه بشكل آلي كأحد أفراد الأسرة وخصوصاً الوالدين وتلك طامة كبرى وعقوق لا تطاق عاقبته..فلنحذر!!
للاعتذار الصحيح شروط لابد من توفرها قبل الشروع فيه حتى يحقق غايته المرجوة، وأولها سرعة المبادرة والصدق في الاعتذار وعدم تبرير الخطأ وعدم التعالي أو التلاعب بالكلمات؛ فالاعتذار فن إنساني لا يتقنه كل الناس؛ ذلك أنه يتطلب كياسة ومرونة وعلماً وثقافة وشيئاً من الأدب والتواضع والقدرة على كبح جماح النفس الأمارة بالسوء، ومن ثم فإن أجمل صور الاعتذار أن يعتذر القوي للضعيف والكبير للصغير.
وإذا كان الاعتذار واجباً، و لابد للمخطئ أن يعتذر؛ صونا للعلاقات وتمتيناً للروابط والصلات الاجتماعية فإن قبول الاعتذار والصفح أوجب؛ لأنه خلق الكرماء والنبلاء.
ثقافة الاعتذار ممارسة تحتاجها مجتمعاتنا كثيراً، وينبغي أن نزرعها باستمرار في أطفالنا بحيث تصبح جزءاً من ثقافتهم تنعكس إيجابياً على مجمل علاقاتهم الاجتماعية لاحقاً، وعندها فقط يبادر كل منهم للاعتذار إذا أخطأ دون تردد ودون شعور بضعف أو خجل؛ فالدين المعاملة فمن منا لم يخطيء في حق غيره يوماً ما، فإذا كان الوقوع في الخطأ من سمات البشر فلا أقل من أن يكون الرجوع للحق والاعتذار عن هذا الخطأ رد فعل طبيعياً في عقب كل فعل لا يليق مع وعد بعدم تكراره، وهذا لن يكون جرحاً لكرامة صاحبه أو إهانة له، ولن يعيبه أبداً بل يضفي عليه مسحة إنسانية وتواضعاً يكسبه حب الآخرين واحترامهم.
وهنا يثور سؤال ماذا يخسر المجتمع إذا غابت فضيلة الاعتراف بالخطأ، وبالتالي ثقافة الاعتذار عن السلوكيات المعيبة ..؟!
والجواب أن تفتقد  الأجيال الجديدة القيم الأصيلة، وتنشأ على العناد والإصرار على المواقف الخاطئة، وهنا يصبح لزاما على كل أب ومعلم وواعظ أن يعلموا أبناءنا منذ الصغر أن الرجوع إلى الحق فضيلة، وأن الاعتراف بالخطأ سلوك أخلاقي لا يصدر إلا عن أصحاب النفوس القوية، وهو ليس علامة ضعف، بل هو يكشف عن رجاحة العقل والأمانة والنزاهة والإنصاف في التعامل مع الأمور كلها.
وهنا يثور سؤال آخر: ماذا يكسب الفرد والمجتمع من وجود فضيلة الاعتذار؟
والجواب أن الاعتذار يجعل سعادة الفرد في قمتها، تجاه نفسه وتجاه مجتمعه ، به يتميز العقلاء بالعودة للصواب، و به  يرتقي النبلاء في محو أثر الزلل، يرفع من قدر صاحبه ، وينفي عنه مظنة الكبر، وبه تمسح آثار الحقد والكراهية من القلوب، وتفتح به الأبواب أمام التسامح والتواصل، وهو حصانة قوية للابتعاد عن الخطأ، وعدم المبالاة بمشاعر الآخرين ؛ لذلك فهو مطلب ملح لالتئام الصف، ودوام الوحدة وصلاح المجتمعات 
ما أحوج مجتمعات اليوم إلى أن يكون الاعتذار جزءًا من علاقاتها الاجتماعية، ورمزًا من رموز ثقافتها الإسلامية، فهو السبيل لصهر الخلافات، والتئام  الجروح المتفشية في أوساطنا، حتى يكون خلقًا يُحتذى من غير إجبار ولا تكلف.
تعالوا نتعلم جميعاً كيف نعتذر إذا أخطأنا، فذلك من تعاليم الإسلام القويم، يقول الله تعالى: "وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا  قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" (الأعراف :164)..ويقول الله تعالى: " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر:53).
ولا يحق لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث، والأجر الاكبر لمن يبدأ بالسلام والصفح والمصافحة ولمن يعفو عن الإساءة ثوب عظيم يقول الله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134)...ويقول رسولنا الكريم "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن".
إن الاعتذار فضيلة وخلق إسلامي ودعوة للاستقامة، وتجنب الأخطاء، خلق يؤكد اتزان شخصية صاحبها، وحسن تربيته، ونبل من يقدم عليه، ويبرهن على حسن نواياه، وصدق مقصده، فالإسلام دين يلزم أتباعه بفضيلة الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه، باعتباره أحد مظاهر الأخلاق النبيلة، وبرهان صدق للقلوب الحية، وسجية محمودة لا يتمتع بها إلا من رزقه الله فطرة سوية مثل فطرة الإسلام الخالية من كل كبرياء زائف، ومن كل سلوك متعجرف يعبر عن غرور صاحبه.
يقول هارون لازار طبيب النفس الأمريكي المشهور في كتابه " الاعتذار" الذي صدر بأمريكا وحقق أعلى الإيرادات " إن الاعتذار أصعب المواقف التي يمكن أن يتعرض لها الزوج أو الزوجة عند وقوع أي خلاف عائلي، وحين يقول شخص لآخر " أنا آسف" فليس معناه فقط الاعتراف بالخطأ أو الرغبة في العدول عنه، وإنما هو موقف ينم عن شخصية كريمة واثقة من نفسها وشجاعة..ورغم ذلك – والكلام ل"هازار"- تظل هذه الجملة هي الأصعب على لسان الزوج أو الزوجة؛ فالمرأة تخشى أن تعتذر لزوجها أو للرجل الذي تحبه خوفاً من أن يتبعه ذلك تقليل من شأنها أو فقدان الثقة بها؛ خاصة أن صورة المرأة لا تزال في حاجة لتصحيح في أذهان الرجال الذين توارثوا مفاهيم خاطئة أو لعدم قدرتها على التصرف أو تحمل المسئولية، كما أنها تعلم جيداً أن الرجل غالباً ما يحاول تحميلها أسباب فشل العلاقة بينهما، وهنا قد يتذرع الرجل باعتذارها ليلقي على عاتقها بأسباب هذا الفشل..أما الزوج فمن الصعب عليه في كثير من الأحوال الاعتراف بالخطأ فهو دائماً يظن أنه يعرف أكثر ويتصرف بحكمة أكبر، ومن هنا يشعر أن صورته ستهتز حين يعترف بالخطأ أو يقول "أنا آسف" فذلك معناه أنه لم يكن قادراً على التصرف بصورة لائقة أو كما هو متوقع منه.
ويفضل الرجل كما يقول هازار أن تتحمل المرأة أسباب فشل العلاقة بينهما؛ ذلك أنها في رأيه أقرب للوقوع في الخطأ ..لكن الاعتذار لا يقلل مطلقاً من شأن صاحبه بل يكسبه احتراماً أكثر.
يقول المؤلف "أنا آسف" هي أجمل كلمة حب يمكن أن تحل أمامها أشد المشكلات تعقيداً وهي الكلمة القادرة على إذابة الجليد وإعادة الدفء والمودة بين الحبيبين. فلا تردد أو تتردي أن تقول "أنا آسف"..لمن تحب. وتأكد أنك دائماً ستكسب كثيراً وتعيش في صفاء نفس وسعادة لا تقدر بثمن.
ويا كل زوج وزوجة لا تأخذوا الأمر بحساسية وتذكر أنك باعتذارك تعيد المياه لمجاريها وتستعيد الشعور بالرومانسية مع شريك الحياة.
الاعتذار فعل نبيل يجدد الأمل ويبث الحيوية في أوصال العلاقات الاجتماعية ويساعدنا في التغلب على الشعور باحتقار الذات وتأنيب الضمير ويعيد الاحترام لمن أسأنا إليهم ويفتح باب التواصل والمحبة.
وإذا كان الاعتذار فضيلة فالأفضل أن يحذر الإنسان الوقوع في الخطأ و تحاشي ما يُعتذر منه لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إياك وكل ما يعتذر منه" فالاعتذار من الأخلاق الحسنة وهو البداية الواجبة لأي صلاح أو إصلاح للمسار وتصويب الأداء لاسيما لدي كل من يتصدى لخدمة الناس والقيام على شئونهم، وهو تحصين للعلاقات الاجتماعية ضد فيروس التفكك والتناحر والخصام والتباغض في زمن الحروب والصراعات والأوبئة ومواقع التنابذ الاجتماعي .
الاعتذار بلسم يضمد الجروح ويشفي النفوس من الغل والحقد ويصون السلام الاجتماعي الذي اهتز بشدة نتيجة سوء استخدام التكنولوجيا التي باتت معول هدم وباعثا على التوتر والضيق والقطيعة وانتهاك الأعراض والخصوصيات.
وفي المقابل فإن قبول الاعتذار فضيلة أوجب، تدل على صدق الإيمان والتسامح والحرص على سلامة البنيان الاجتماعي وصفاء القلب وسمو النفس والقدرة على العفو والتعايش وتلك أهم مقومات المجتمع الآمن.